سِنُّك يَا مَعْنُ، قَالَ: فِي طَاعَتِك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: إنَّك لَجَلْدٌ. قَالَ: عَلَى أَعْدَائِك، قَالَ: وَإِنَّ فِيك لَبَقِيَّةً، قَالَ: هِيَ لَك.
وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ: قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: ٥٣] فَالشَّيْطَانُ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إذَا كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَرُبَّ حَرْبٍ وَقُودُهَا جُثَثٌ وَهَامٌ، أَهَاجَهَا الْقَبِيحُ مِنْ الْكَلَامِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي» وَخَبُثَتْ وَلَقِسَتْ وَغَثَّتْ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى.
فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَ " الْخُبْثِ " لِبَشَاعَتِهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إلَى الْعُدُولِ إلَى لَفْظٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ فِي الْمَنْطِقِ، وَإِرْشَادًا إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ، وَهَجْرِ الْقَبِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ، كَمَا أَرْشَدَهُمْ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ.
[فَصَلِّ فِي عَجَائِب الْفِرَاسَة]
١٦ - (فَصْلٌ)
وَمِنْ عَجِيبِ الْفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ: أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ فِي مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فِيهِ، إذْ رَأَى سَائِلًا فِي ثَوْبٍ خَلِقٍ، فَوَضَعَ دَجَاجَةً فِي رَغِيفٍ وَحَلْوَى وَأَمَرَ بَعْضَ الْغِلْمَانِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَهَشَّ، وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: جِئْنِي بِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ قُدَّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ، فَأَحْسَنَ الْجَوَابَ، وَلَمْ يَضْطَرِبْ مِنْ هَيْبَتِهِ، فَقَالَ: هَاتِ الْكُتُبَ الَّتِي مَعَك، وَاصْدُقْنِي مَنْ بَعَثَك، فَقَدْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّك صَاحِبُ خَبَرٍ. وَأَحْضَرَ السِّيَاطَ، فَاعْتَرَفَ، فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: هَذَا وَاَللَّهِ السِّحْرُ، قَالَ: مَا هُوَ بِسِحْرٍ، وَلَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ، رَأَيْت سُوءَ حَالِهِ، فَوَجَّهْت إلَيْهِ بِطَعَامٍ يَشْرَهُ إلَى أَكْلِهِ الشَّبْعَانُ، فَمَا هَشَّ لَهُ، وَلَا مَدَّ يَدَهُ إلَيْهِ، فَأَحْضَرْته فَتَلَقَّانِي بِقُوَّةِ جَأْشٍ، فَلَمَّا رَأَيْت رَثَاثَةَ حَالِهِ، وَقُوَّةَ جَأْشِهِ، عَلِمْت أَنَّهُ صَاحِبُ خَبَرٍ، فَكَانَ كَذَلِكَ.
وَرَأَى يَوْمًا حَمَّالًا يَحْمِلُ صِنًّا وَهُوَ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الِاضْطِرَابُ مِنْ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ لَغَاصَتْ عُنُقُ الْحَمَّالِ، وَأَنَا أَرَى عُنُقَهُ بَارِزَةً، وَمَا أَرَى هَذَا الْأَمْرَ إلَّا مِنْ خَوْفٍ، فَأَمَرَ بِحَطِّ الصِّنِّ، فَإِذَا فِيهِ جَارِيَةٌ قَدْ قُتِلَتْ وَقُطِّعَتْ، فَقَالَ: اُصْدُقْنِي عَنْ حَالِهَا، فَقَالَ: أَرْبَعَةُ نَفَرٍ فِي الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ أَعْطَوْنِي هَذِهِ الدَّنَانِيرَ، وَأَمَرُونِي بِحَمْلِ هَذِهِ الْمَقْتُولَةِ. فَضَرَبَهُ وَقَتَلَ الْأَرْبَعَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute