قَالَ الْآخَرُونَ: رَذِيلَةُ الْكُفْرِ لَمْ تَمْنَعْ قَبُولَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْحَاجَةِ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ تَمْنَعْ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعِرَافَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَوْنُ بَعْضِهِمْ حَاكِمًا وَقَاضِيًا عَلَيْهِمْ، فَلَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ شَاهِدًا عَلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرِيمٌ لَهُمْ، وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ دَفْعٌ لِشَرِّهِمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِيصَالُ أَهْلِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ إلَى حُقُوقِهِمْ بِقَوْلِ مَنْ يَرْضَوْنَهُ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي لَا غِنًى لَهُمْ عَنْهَا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، أَنَّهُمْ إذَا رَضُوا بِأَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَرَضُوا بِقَبُولِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَلْزَمْنَاهُمْ بِمَا رَضُوا بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَثِقُونَ بِهِ، فَلَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَلَمْ نُلْزِمْهُمْ بِشَهَادَتِهِ.
[فَصَلِّ فِي شَهَادَة الْكُفَّارِ عَلَى المسلين فِي السَّفَر]
٨٠ - (فَصْلٌ)
فَهَذَا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - هِيَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ - فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا صَرِيحُ الْقُرْآنِ، وَعَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ، وَذَهَبَ إلَيْهَا فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قَالَ أَبِي: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِي السَّفَرِ، الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: ١٠٦] فَأَجَازَهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " وَهَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّهُ فِي سَفَرٍ، وَلَا نَجِدُ مَنْ يَشْهَدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى اهـ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ - فَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى - قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إذَا كَانَ عَلَى الضَّرُورَةِ، قُلْتُ: أَلَيْسَ يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ؟ قَالَ: مَنْ يَقُولُ؟ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَهَلْ يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا إبْرَاهِيمُ؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ فِي الْمِيرَاثِ، عَلَى مَا أَجَازَ أَبُو مُوسَى فِي السَّفَرِ، وَأُحَلِّفُهُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، إذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ غَيْرَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] ، فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَاضِي الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ: شُرَيْحٍ، وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَحَكَاهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْلَى بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ.
قَالَ: " شَهِدَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دَقُوقَاءَ عَلَى وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا