للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَقْضِيَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: ادْفَعْنَا إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَعَرَفَ عَلِيٌّ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرَا بِهَا؛ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمَا: لَا تَدْفَعِيهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُونَ صَاحِبِهِ؟ قَالَا: بَلَى؛ قَالَ: فَإِنَّ مَالَك عِنْدَهَا، فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبِك حَتَّى تَدْفَعَهُ إلَيْكُمَا.

[فَصَلِّ فِي فِرَاسَةِ الْحَاكِمِ]

١٠ - (فَصْلٌ) وَمِنْ فِرَاسَةِ الْحَاكِمِ: مَا ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: أَنَّ إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ، اسْتَوْدَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ وَدِيعَةً؛ فَقَالَ: صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ: اسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ مَا لِي عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَقَالَ إيَاسٌ: بَلْ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَالَك عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَلَا غَيْرُهَا.

وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفِرَاسَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: " مَا لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةٌ " احْتَمَلَ النَّفْيَ؛ وَاحْتَمَلَ الْإِقْرَارَ فَيَنْصِبُ " مَالَهُ " بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ؛ أَيْ دَفَعَ مَالَهُ إلَيَّ، أَوْ أَعْطَانِي مَالَهُ؛ أَوْ يَجْعَلُ " مَا " مَوْصُولَةً وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ صِلَتَهَا وَوَدِيعَةٌ خَبَرٌ عَنْ " مَا " فَإِذَا قَالَ: " وَلَا غَيْرُهَا " تَعَيَّنَ النَّفْيُ.

وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: شَهِدْت إيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ ارْتَهَنَ رَهْنًا؛ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْته بِعَشَرَةٍ وَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْته بِخَمْسَةٍ؛ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلرَّاهِنِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الرَّهْنَ فَالْقَوْلُ، مَا قَالَ الرَّاهِنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِدَفْعِ الرَّهْنِ إلَيْهِ؛ وَالرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ. فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَحَدَهُ الرَّهْنَ.

قُلْت: وَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالرَّهْنِ - وَهُوَ فِي يَدِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلرَّاهِنِ - دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ؛ وَأَنَّهُ مُحِقٌّ، وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا لَجَحَدَهُ الرَّهْنَ رَأْسًا. وَمَالِكٌ وَشَيْخُنَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ، يَجْعَلَانِ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، يَجْعَلُونَ الْقَوْلَ قَوْلَ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ إيَاسٌ أَيْضًا: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ.

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَحْسَنِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَمٌ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، إلَّا أَنِّي قَضَيْته إيَّاهَا، فَالْقَوْلُ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ مُوَرِّثِهِ وَدِيعَةً، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، وَادَّعَى رَدَّهَا إلَيْهِ.

وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيُّ: جَاءَ رَجُلَانِ إلَى إيَاسَ بْنِ مُعَاوِيَةَ؛ يَخْتَصِمَانِ فِي قَطِيفَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا حَمْرَاءُ؛ وَالْأُخْرَى خَضْرَاءُ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: دَخَلْت الْحَوْضَ لِأَغْتَسِلَ، وَوَضَعْت قَطِيفَتِي، ثُمَّ جَاءَ هَذَا، فَوَضَعَ قَطِيفَتَهُ تَحْتَ قَطِيفَتِي، ثُمَّ دَخَلَ فَاغْتَسَلَ، فَخَرَجَ قَبْلِي، وَأَخَذَ قَطِيفَتِي فَمَضَى بِهَا؛ ثُمَّ خَرَجْت فَتَبِعْته، فَزَعَمَ أَنَّهَا قَطِيفَتُهُ؛ فَقَالَ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ائْتُونِي بِمُشْطٍ؛ فَأُتِيَ بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذَا، وَرَأْسَ هَذَا. فَخَرَجَ مِنْ رَأْسِ أَحَدِهِمَا صُوفٌ أَحْمَرُ، وَمِنْ رَأْسِ الْآخَرِ صُوفٌ

<<  <   >  >>