وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِ الضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ وَالْعِصِيِّ فِيهِ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَا تَسُوغُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَلَا تَسُوغُ بِالشُّبْهَةِ، بَلْ سُقُوطُهَا بِالشُّبْهَةِ أَقْرَبُ إلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ ثُبُوتِهَا بِالشُّبْهَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الَأَصْبَغُ بْنُ نَبَاتَةَ: بَيْنَمَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ، إذْ سَمِعَ ضَجَّةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجُلٌ سَرَقَ، وَمَعَهُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمْ، فَدَخَلُوا، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَيْهِ: أَنَّهُ سَرَقَ دِرْعًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي، وَيُنَاشِدُ عَلِيًّا أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي أَمْرِهِ. فَخَرَجَ عَلِيٌّ إلَى مُجْتَمَعِ النَّاسِ بِالسُّوقِ، فَدَعَا بِالشَّاهِدَيْنِ فَنَاشَدَهُمَا اللَّهَ وَخَوَّفَهُمَا، فَأَقَامَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا. فَلَمَّا رَآهُمَا لَا يَرْجِعَانِ دَعَا بِالسِّكِّينِ وَقَالَ: لِيُمْسِكْ أَحَدُكُمَا يَدَهُ وَيَقْطَعْ الْآخَرُ، فَتَقَدَّمَا لِيَقْطَعَاهُ، فَهَاجَ النَّاسُ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَقَامَ عَلِيٌّ عَنْ الْمَوْضِعِ. فَأَرْسَلَ الشَّاهِدَانِ يَدَ الرَّجُلِ وَهَرَبَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْكَاذِبَيْنِ؟ فَلَمْ يُوقَفْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ، فَخَلَّى سَبِيلَ الرَّجُلِ.
وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفِرَاسَةِ، وَأَصْدَقِهَا، فَإِنَّهُ وَلَّى الشَّاهِدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا بِأَيْدِيهِمَا مَنْ قَطَعَا يَدَهُ بِأَلْسِنَتِهِمَا، وَمِنْ هَاهُنَا قَالُوا: إنَّهُ يَبْدَأُ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ إذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا.
وَجَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إنَّ زَوْجِي وَقَعَ عَلَى جَارِيَتِي بِغَيْرِ أَمْرِي، فَقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: مَا وَقَعْت عَلَيْهَا إلَّا بِأَمْرِهَا، فَقَالَ: إنْ كُنْتِ صَادِقَةً رَجَمْته، وَإِنْ كُنْت كَاذِبَةً جَلَدْتُكِ الْحَدَّ، وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، وَقَامَ لِيُصَلِّيَ، فَفَكَّرَتْ الْمَرْأَةُ فِي نَفْسِهَا، فَلَمْ تَرَ لَهَا فَرَجًا فِي أَنْ يُرْجَمَ زَوْجُهَا وَلَا فِي أَنْ تُجْلَدَ، فَوَلَّتْ ذَاهِبَةً، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهَا عَلِيٌّ.
٢٢ - (فَصْلٌ)
وَمِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ، قَاضِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ اخْتَصَمَ إلَيْهِ امْرَأَتَانِ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ، فَانْقَلَبَتْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَحَدِ الصَّبِيَّيْنِ فَقَتَلَتْهُ، فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ، فَقَالَ كَعْبٌ: لَسْتُ بِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد، ثُمَّ دَعَا بِتُرَابٍ نَاعِمٍ فَفَرَشَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَرْأَتَيْنِ فَوَطِئَتَا عَلَيْهِ. ثُمَّ مَشَى الصَّبِيُّ عَلَيْهِ. ثُمَّ دَعَا الْقَائِفَ، فَقَالَ: اُنْظُرْ فِي هَذِهِ الْأَقْدَامِ، فَأَلْحَقَهُ بِإِحْدَاهُمَا.
قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: وَأَتَى صَاحِبُ عَيْنِ هَجَرٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ لِي عَيْنًا، فَاجْعَلْ لِي خَرَاجَ مَا تَسْقِي، قَالَ: هُوَ لَك، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَفِيضُ مَاؤُهُ عَنْ أَرْضِهِ، فَيَسِيحُ فِي أَرَاضِيِ النَّاسِ، وَلَوْ حُبِسَ مَاؤُهُ فِي أَرْضِهِ لَغَرِقَتْ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِأَرْضِهِ وَلَا بِمَائِهِ، فَمُرْهُ فَلْيَحْبِسْ مَاءَهُ عَنْ أَرَاضِي النَّاسِ إنْ كَانَ صَادِقًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْبِسَ مَاءَك؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَانَتْ هَذِهِ لِكَعْبٍ.
[فَصَلِّ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الرَّجُل الْوَاحِد]
(فَصْلٌ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute