قَالَ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: ١٩٩] وَأَوْجَبَتْ الشَّرِيعَةُ الرُّجُوعَ إلَى الْعُرْفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّعَاوَى كَالنَّقْدِ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ بِهَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خِلَافَ الْعَادَاتِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَسْكُتُونَ عَلَى مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
قَالُوا: وَإِذَا اعْتَبَرْنَا طُولَ الْمُدَّةِ فَقَدْ حَدَّدَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ بِعَشْرِ سِنِينَ.
وَرُبَّمَا احْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثٍ يُذْكَرُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» وَهَذَا لَا يَثْبُتُ. وَأَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ حَدًّا، وَرَأَى ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى وَيَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ.
الثَّالِثَةُ: يَدٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُحِقَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مُبْطِلَةً، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَيْهَا، وَيُحْكَمُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا. فَالشَّارِعُ لَا يُغَيِّرُ يَدًا شَهِدَ الْعُرْفُ وَالْحِسُّ بِكَوْنِهَا مُبْطِلَةً، وَلَا يَهْدُرُ يَدًا شَهِدَ الْعُرْفُ بِكَوْنِهَا مُحِقَّةً، وَالْيَدُ الْمُحْتَمِلَةُ: يَحْكُمُ فِيهَا بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَى الصَّوَابِ، وَهُوَ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَالشَّارِعُ لَا يُعِينُ مُبْطِلًا، وَلَا يُعِينُ عَلَى مُحِقٍّ، وَيَحْكُمُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ بِأَقْرَبِ الطُّرُقِ إلَى الصَّوَابِ وَأَقْوَاهَا.
[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَحْده أَوْ بِهِ مَعَ رد الْيَمِين]
٤٩ - (فَصْلٌ)
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْحُكْمُ بِالنُّكُولِ وَحْدَهُ، أَوْ بِهِ مَعَ رَدِّ الْيَمِينِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَبْدٍ لَهُ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ احْلِفْ أَنَّكَ مَا بِعْتَ الْعَبْدَ وَبِهِ عَيْبٌ عَلِمْتَهُ. فَأَبَى ابْنُ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْعَبْدَ ".
فَيَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إنْ لَمْ تَحْلِفْ وَإِلَّا قَضَيْتُ عَلَيْكَ - ثَلَاثًا - فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ إذَا نَكَلَ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَقَدْ صَوَّبَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَشَيْخُنَا فِي صُورَةِ الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ النُّكُولِ فِي صُورَةٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَهَذَا: قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ