أَشْبَهَ الشَّبَهَ الْبَيِّنَ، فَإِنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِعَادَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِعَادَتِهِ وَسُنَّتِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْإِلْحَاقِ - وَهُوَ الدَّعْوَى - فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ لُحُوقُ النَّسَبِ ".
فَيُقَالُ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى يُطْلَبُ بَيَانُهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي مَهْمَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بَيَانُهَا بِالشَّبَهِ الْبَيِّنِ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْقَائِفُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ صِحَّتِهَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ صِحَّتِهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي - كَالْفِرَاشِ وَالْقَافَةِ - بِغَيْرِ إعْمَالِ الدَّعْوَى، فَإِذَا اسْتَوَيَا فِيهَا اسْتَوَيَا فِي حُكْمِهَا - فَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا أَنْ تَعْمَلَ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ ظُهُورِ مَا يُخَالِفُهَا مِنْ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَامَةً لِثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا وَقَدْرًا: فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَلِأُصُولِ الشَّرْعِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» (٢١) " وَالْبَيِّنَةُ " اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ الدَّعْوَى وَالشَّبَهُ: بَيَّنَ صِحَّةَ الدَّعْوَى، فَإِذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ أَحَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كَانَ النَّسَبُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِمَا كَانَ النَّسَبُ لَهُمَا.
وَقَوْلُهُمْ: " لَوْ أَثَّرَ الشَّبَهُ وَالْقَافَةُ فِي نِتَاجِ الْآدَمِيِّ لَأَثَّرَ فِي نِتَاجِ الْحَيَوَانِ ". جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ، إذْ لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا سِوَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَأَيْنَ التَّلَازُمُ شَرْعًا وَعَقْلًا بَيْنَ النَّاسِ؟
الثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ يَتَشَوَّفُ إلَى ثُبُوتِ الْأَنْسَابِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَلَا يَحْكُمُ بِانْقِطَاعِ النَّسَبِ إلَّا حَيْثُ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ وَبِالدَّعْوَى وَبِالْأَسْبَابِ الَّتِي بِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ وَحَقٌّ لِلْأَبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ. بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَهُ الْوَطْءُ، وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا فِي غَايَةِ التَّسَتُّرِ، وَيُكْتَمُ عَنْ الْعُيُونِ وَعَنْ اطِّلَاعِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عَلَيْهِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَبَبِهِ لَضَاعَتْ أَنْسَابُ بَنِي آدَمَ، وَفَسَدَتْ أَحْكَامُ الصِّلَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ مِنْ فِرَاشٍ وَدَعْوَى وَشَبَهٍ، حَتَّى أَثْبَتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ وُصُولِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَأَثْبَتَهُ لِأُمَّيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّبَهَ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute