وَقَالَ: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٢] وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، فَإِنْ أَخَذَهُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لَمْ يَأْخُذْهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا قَدَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الثَّمَنِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ: هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ، وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ، حَاجَةً عَامَّةً، فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ: فَمِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ.
وَأَمَّا الْحُدُودُ: فَمِثْلُ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ.
وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ، لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتَقِ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فِيهَا الثَّمَنُ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَا شَاءَ، وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ وَالثِّيَابَ لِأَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ عِنْدَهُ سِلَعٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا أَنْ يَبِيعَ بِمَا شَاءَ: كَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ: وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ.
وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ: أَنْ يَبْذُلَهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ تَسْعِيرِ الطَّعَامِ، إذَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ، إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي: أَمَرَ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ مِنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ، عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ، وَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ، زَجْرًا لَهُ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ. قَالُوا: فَإِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ، وَتَجَاوَزُوا الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ: سَعَّرَهُ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ، حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ. وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ: صَحَّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ مَالِ