أُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ، فَمَضَى، وَاعْتَقَلَ الْقَاضِي الْغَرِيمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتُرَاهُ بَلَغَ الْمَسْجِدَ؟ قَالَ: لَا فَأَلْزَمَهُ بِالْمَالِ.
وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ لَهُ فِي ذَلِكَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ الْحَقُّ فِيمَا يَفْعَلُهُ.
قَالَ مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ: كُنْت فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْخٌ وَمَعَهُ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَادَّعَى الشَّيْخُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ الْقَاضِي لِلشَّيْخِ مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: حَبْسَهُ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ الشَّيْخُ: إنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَهُ فَهُوَ أَرْجَى لِحُصُولِ مَالِي. فَتَفَرَّسَ أَبُو حَازِمٍ فِيهِمَا سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: تَلَازَمَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَقُلْت لَهُ: لِمَ أَخَّرْت حَبْسَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَك، إنِّي أَعْرِفُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ فِي وُجُوهِ الْخُصُومِ وَجْهَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ، وَقَدْ صَارَتْ لِي بِذَلِكَ دِرَايَةٌ لَا تَكَادُ تُخْطِئُ، وَقَدْ وَقَعَ إلَيَّ أَنَّ سَمَاحَةَ هَذَا بِالْإِقْرَارِ عَيْنُ كَذِبِهِ وَلَعَلَّهُ يَنْكَشِفُ لِي مِنْ أَمْرِهِمَا مَا أَكُونُ مَعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، أَمَا رَأَيْت قِلَّةَ تَقَصِّيهِمَا فِي النَّاكِرَةِ، وَقِلَّةَ اخْتِلَافِهِمَا، وَسُكُونَ طِبَاعِهِمَا مَعَ عِظَمِ الْمَالِ؟ وَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْأَحْدَاثِ بِفَرْطِ التَّوَرُّعِ حَتَّى يُقِرَّ مِثْلُ هَذَا طَوْعًا عَجِلًا، مُنْشَرِحَ. الصَّدْرِ عَلَى هَذَا الْمَالِ، قَالَ: فَنَحْنُ كَذَلِكَ نَتَحَدَّثُ إذْ أَتَى الْآذِنُ يَسْتَأْذِنُ عَلَى الْقَاضِي لِبَعْضِ التُّجَّارِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْقَاضِيَ، إنِّي بُلِيت بِوَلَدٍ لِي حَدَثٍ يُتْلِفُ كُلَّ مَالٍ يَظْفَرُ بِهِ مِنْ مَالِي فِي الْقِيَانِ عِنْدَ فُلَانٍ فَإِذَا مَنَعْته احْتَالَ بِحِيَلٍ تَضْطَرُّنِي إلَى الْتِزَامِ الْغُرْمِ عَنْهُ. وَقَدْ نَصَبَ الْيَوْمَ صَاحِبُ الْقِيَانِ يُطَالِبُ بِأَلْفِ دِينَارٍ حَالًّا، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ تَقَدَّمَ إلَى الْقَاضِي لِيُقِرَّ لَهُ فَيَحْبِسَهُ. وَأَقَعَ مَعَ أُمِّهِ فِيمَا يُنَكِّدُ عَيْشَنَا إلَى أَنْ أَقْضِيَ عَنْهُ. فَلَمَّا سَمِعْت بِذَلِكَ بَادَرْت إلَى الْقَاضِي لِأَشْرَحَ لَهُ أَمْرَهُ، فَتَبَسَّمَ الْقَاضِي، وَقَالَ لِي: كَيْفَ رَأَيْت؟ فَقُلْت: هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْقَاضِي، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْغُلَامِ وَالشَّيْخِ. فَأَرْهَبَ أَبُو حَازِمٍ الشَّيْخَ، وَوَعَظَ الْغُلَامَ. فَأَقَرَّا، فَأَخَذَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَانْصَرَفَا.
وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ: كَانَ بِبَلَدِنَا رَجُلٌ مَسْتُورُ الْحَالِ، فَأَحَبَّ الْقَاضِي قَبُولَ قَوْلِهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَزُكِّيَ عِنْدَهُ سِرًّا وَجَهْرًا، فَرَاسَلَهُ فِي حُضُورِ مَجْلِسِهِ لِإِقَامَةِ شَهَادَةٍ وَجَلَسَ الْقَاضِي وَحَضَرَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا أَرَادَ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَقْبَلْهُ الْقَاضِي فَسُئِلَ عَنْ السَّبَبِ؟ فَقَالَ: انْكَشَفَ لِي أَنَّهُ مُرَاءٍ، فَلَمْ يَسَعْنِي قَبُولُ قَوْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ إلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَأَعُدُّ خُطَاهُ مِنْ حَيْثُ تَقَعُ عَيْنِي عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ إلَى مَجْلِسِي، فَلَمَّا دَعَوْته الْيَوْمَ جَاءَ، فَعَدَدْت خُطَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِذَا هِيَ قَدْ زَادَتْ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهَا، فَعَلِمْت أَنَّهُ مُتَصَنِّعٌ فَلَمْ أَقْبَلْهُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: شَهِدَ الْفَرَزْدَقُ عِنْدَ بَعْضِ الْقُضَاةِ، فَقَالَ: قَدْ أَجَزْنَا شَهَادَةَ أَبِي فِرَاسٍ وَزَيْدُونًا، فَقِيلَ لَهُ حِينَ انْصَرَفَ: إنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَجَازَ شَهَادَتَك.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute