رِوَايَتَانِ، ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ، إحْدَاهُمَا: تَسْقُطُ الْبَيِّنَتَانِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقُرْعَةَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدِيمُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرٍ، وَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشُهُودٍ عُدُولٍ عَلَى عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَسْهَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ "، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَسَقَطَتَا كَالْخَبَرَيْنِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِمَا رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: تَقْسِيمُ الْعَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَحَمَّادٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعِيرٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي دَعْوَاهُمَا، فَتَسَاوَيَا فِي قِسْمَتِهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: تُقَدَّمُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَلَهُ قَوْلٌ رَابِعٌ، يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ، كَالْحَاكِمِ إذَا لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْقَضِيَّةِ.
وَلَنَا: الْخَبَرَانِ، وَإِنَّ تَعَارُضَ الْحُجَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ كَالْخَبَرَيْنِ بَلْ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ أَسْقَطْنَاهُمَا، وَرَجَعْنَا إلَى دَلِيلِ غَيْرِهِمَا.
قُلْت: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ حَلَفَ لَقَدْ شَهِدَ شُهُودُهُ بِحَقٍّ، ثُمَّ يُقْضَى لَهُ، وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَرَى ذَلِكَ، وَيَرْوِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكُوفِيُّونَ يَرْوُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَمْرٍ، فَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشُهَدَاءَ عُدُولٍ عَلَى عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَسْهَمَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا، فَقَضَى لِلَّذِي خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي " الْمَرَاسِيلِ "، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشُهُودٍ، وَكَانُوا سَوَاءً، فَأَسْهَمَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَتَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْقُرْعَةِ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute