للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ زَنَتْ. فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعَادَتْ ذَلِكَ وَأَيَّدَتْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ بِهِ اسْتِهْلَالَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ. فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْفِرَاسَةِ.

٢٠ - (فَصْلٌ)

وَمِنْ قَضَايَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ وُجِدَ فِي خَرِبَةٍ بِيَدِهِ سِكِّينٌ مُتَلَطِّخَةٌ بِدَمٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَتِيلٌ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ. فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْته، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْتُلُوهُ. فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعًا، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، لَا تَعْجَلُوا. رُدُّوهُ إلَى عَلِيٍّ، فَرَدُّوهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا صَاحِبُهُ، أَنَا قَتَلْته. فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَوَّلِ: مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ قُلْت: أَنَا قَاتِلُهُ، وَلَمْ تَقْتُلْهُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ؟ وَقَدْ وَقَفَ الْعَسَسُ عَلَى الرَّجُلِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَأَنَا وَاقِفٌ، وَفِي يَدِي سِكِّينٌ، وَفِيهَا أَثَرُ الدَّمِ، وَقَدْ أُخِذْت فِي خَرِبَةٍ؟ فَخِفْت أَلَّا يُقْبَلَ مِنِّي، وَأَنْ يَكُونَ قَسَامَةٌ، فَاعْتَرَفْت بِمَا لَمْ أَصْنَعْ، وَاحْتَسَبْت نَفْسِي عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: بِئْسَمَا صَنَعْت. فَكَيْفَ كَانَ حَدِيثُك؟ قَالَ: إنِّي رَجُلٌ قَصَّابٌ، خَرَجْت إلَى حَانُوتِي فِي الْغَلَسِ، فَذَبَحْت بَقَرَةً وَسَلَخْتهَا. فَبَيْنَمَا أَنَا أَسْلُخُهَا وَالسِّكِّينُ فِي يَدِي أَخَذَنِي الْبَوْلُ. فَأَتَيْت خَرِبَةً كَانَتْ بِقُرْبِي فَدَخَلْتهَا، فَقَضَيْت حَاجَتِي، وَعُدْت أُرِيدُ حَانُوتِي، فَإِذَا أَنَا بِهَذَا الْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَرَاعَنِي أَمْرُهُ، فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ وَالسِّكِّينُ فِي يَدِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إلَّا بِأَصْحَابِك قَدْ وَقَفُوا عَلَيَّ فَأَخَذُونِي، فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا قَتَلَ هَذَا، مَا لَهُ قَاتِلٌ سِوَاهُ. فَأَيْقَنْت أَنَّك لَا تَتْرُكُ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِي، فَاعْتَرَفْت بِمَا لَمْ أَجْنِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُقِرِّ الثَّانِي: فَأَنْتَ كَيْفَ كَانَتْ قِصَّتُك؟ فَقَالَ أَغْوَانِي إبْلِيسٌ، فَقَتَلْت الرَّجُلَ طَمَعًا فِي مَالِهِ، ثُمَّ سَمِعْت حِسَّ الْعَسَسِ، فَخَرَجْت مِنْ الْخَرِبَةِ، وَاسْتَقْبَلْت هَذَا الْقَصَّابَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي وَصَفَ، فَاسْتَتَرْت مِنْهُ بِبَعْضِ الْخَرِبَةِ حَتَّى أَتَى الْعَسَسُ، فَأَخَذُوهُ وَأَتَوْك بِهِ. فَلَمَّا أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ عَلِمْت أَنِّي سَأَبُوءُ بِدَمِهِ أَيْضًا، فَاعْتَرَفْت بِالْحَقِّ. فَقَالَ لِلْحَسَنِ: مَا الْحُكْمُ فِي، هَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أَحْيَا نَفْسًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: ٣٢] ، فَخَلَّى عَلِيٌّ عَنْهُمَا، وَأَخْرَجَ دِيَةَ الْقَتِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

وَهَذَا - إنْ وَقَعَ صُلْحًا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ - فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ. لِأَنَّ الْجَانِيَ قَدْ اعْتَرَفَ بِمَا يُوجِبُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِيفَاؤُهُ.

<<  <   >  >>