قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، وَيَقْبَلُونَ فِيهِ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَلَا يُمْكِنُ لِلرِّجَالِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ عَلَى الِانْفِرَادِ. فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ.
قَالُوا: وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ مَا قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالرِّوَايَةِ.
قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الطِّفْلِ، وَلَا تُقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِيرَاثِ.
وَثُبُوتُ النَّسَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُقْبَلُ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ يَكُونُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقْضِي بِأَحْكَامِ الشَّهَادَةِ، وَأَثْبَتَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ يُثْبِتْ الْمِيرَاثَ وَالنَّسَبَ بِشَهَادَتِهَا احْتِيَاطًا، قَالُوا: وَأَمَّا الرَّضَاعُ: فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَتَى ثَبَتَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا زَوَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّهُمْ أَحَلُّوا الرَّضَاعَ مَحَلَّ سَائِرِ أُمُورِ النِّسَاءِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، كَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَخَذُوا بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ، أَوْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَيْسَتْ كَالْفُرُوجِ الَّتِي لَا حَظَّ لِلرِّجَالِ فِي مُشَاهَدَتِهَا، وَجَعَلُوهَا مِنْ ظَوَاهِرِ أُمُورِ النِّسَاءِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوُجُوهِ.
وَاَلَّذِينَ أَجَازُوهَا بِالْمَرْأَتَيْنِ: ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الرَّضَاعَةَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ فِي التَّحْرِيمِ كَالْعَوْرَاتِ - فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِظُهُورِ الثَّدْيِ وَالنُّحُورِ. وَهَذِهِ مِنْ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فَرْضَهَا السَّتْرَ عَلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، فَجَعَلُوا الْمَرْأَتَيْنِ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلَيْنِ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِي هَذَا: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ وُرُودِ ذَلِكَ، فَإِذَا شَهِدَتْ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ بِأَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْهُ وَزَوَّجَتْهُ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ مِنْ اللَّهِ فِي اجْتِنَابِهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهَا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسْتَفْتِي فِي ذَلِكَ: «دَعْهَا عَنْك» .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِهِ،