عَلَيْهِ، يَجِدُ طَرِيقًا إلَى ذَلِكَ، لِعِظَمِ شَأْنِ الْيَمِينِ وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَلِهَذَا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ، كَرُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَلَوْ مُكِّنَ كُلُّ مُدَّعٍ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى امْتِهَانِ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْأَخْطَارِ وَالدِّيَانَاتِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّشَفِّيَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ أَقْرَبَ وَلَا أَخَفَّ كُلْفَةٍ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُعَادِيهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ بِهِ، أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، لِيَتَشَفَّى مِنْهُ بِتَبَذُّلِهِ وَإِحْلَافِهِ، وَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِصُورَةِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، لَعَلَّهُ يَفْتَدِي يَمِينَهُ مِنْهُ، لِئَلَّا يَنْقُصَ قَدْرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ.
قَالَ: وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَحَضَرْنَاهُ، وَأَصَابَنَا بَعْضُهُ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: حِرَاسَةً لِمُرُوآتِ النَّاسِ، وَحِفْظًا لَهَا مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِمْ، وَالْأَذَى الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهِمْ.
فَإِذَا قَوِيَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِمُخَالَطَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ، وَقَوِيَ فِي النَّفْسِ أَنَّ مَقْصُودَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأُحْلِفَ لَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الْغَرِيبُ، لِأَنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكَادُ تَلْحَقُ الْمُرُوءَةَ فِيهَا مَا يَلْحَقُهَا فِي الْوَطَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَلَّا يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ أَيْضًا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ امْتِهَانًا لَهُ وَابْتِذَالًا. قِيلَ لَهُ: حُضُورُهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ، لَا عَارَ فِيهِ، وَلَا نَقْصَ يَلْحَقُ مِنْ حُضُورِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْضُرُونَهُ ابْتِدَاءً فِي حَوَائِجَ لَهُمْ وَمُهِمَّاتٍ، وَإِنَّمَا الْعَارُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ يُمَكِّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إحْضَارِهِ، لَعَلَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ حَقِّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَمِينُ الصَّادِقَةُ لَا عَارَ فِيهَا، وَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ.
وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ " مَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ إذَا كُنْت صَادِقًا؟ ".
قِيلَ: مُكَابَرَةُ الْعَادَاتِ لَا مَعْنَى لَهَا، وَأَقْرَبُ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ افْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَيْمَانَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِصَرْفِ الظَّلَمَةِ عَنْهُمْ، وَأَلَّا تَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ تُهْمَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: إنَّمَا هُوَ لِتَقْوِيَةِ نَفْسِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ إذَا حَلَفَ صَادِقًا فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِ، لِيُضْعِفَ بِذَلِكَ نُفُوسَ مَنْ يُرِيدُ الْإِعْنَاتَ، وَيَطْمَعُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِادِّعَاءِ الْمُحَالِ، لِيَفْتَدُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute