الْمُدَّعَى حَدًّا لِلَّهِ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ فَفِيهِ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى، فَإِنْ سَمِعَ الدَّعْوَى حَلَفَ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَحْلِفْ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَا يَحْلِفُ الْمُتَّهَمُ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْأَرَاذِلُ وَالْأَشْرَارُ إلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأُولِي الْفَضْلِ وَالْأَخْطَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَ ذَلِكَ قَبِيحًا.
٣٤ - (فَصْلٌ)
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُون الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ، لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ: قَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تُهْمَةٍ، قَالَ أَحْمَدُ: وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ " وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ»
وَفِي " جَامِعِ الْخَلَّالِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً» .
وَالْأُصُولُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، الَّذِي يَسُوغُ إحْضَارُهُ: وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إحْضَارُهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا، وَيُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى - الَّتِي هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَرِيدٌ - وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الذَّهَابُ إلَيْهِ وَالْعَوْدُ فِي يَوْمِهِ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ يُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ، كَمَا هِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ.
ثُمَّ إنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يَكُونُ مَشْغُولًا عَنْ تَعْجِيلِ الْفَصْلِ، وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ سَابِقَةٌ، فَيَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مَعُوقًا مِنْ حِينِ يُطْلَبُ إلَى أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ، فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السِّجْنُ فِي مَكَان ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ كَانَ بِتَوْكِيلِ نَفْسِ الْخَصْمِ أَوْ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ لَهُ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَسِيرًا " كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute