للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مِنَ الشِّرْكِ وتغييرِ بعضِ مناسِكِ الحجِّ، فسَلَّطَ الله رَسُولَهُ وأُمَّتَه على مَكَّةَ فطهَّرُوها مِن ذلك كلِّه، وردُّوا الأمرَ إلى دِينِ إبراهيمَ الحنيفِ، وهو الذي دَعَا لهم مع ابنه إسماعيلَ عند بناءِ البيت أن يبعثَ الله (١) فيهم رَسُولًا منهم يتلُو عليهم آياتِهِ ويُزكِّيهم ويعلِّمُهم الكِتَابَ والحِكْمَةَ (٢)، فبعَثَ الله فيهم محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - مِن ولَدِ إسماعيلَ بهذه الصِّفَةِ، فطهَّرَ البيتَ وما حَوْلَه مِنَ الشِّرْكِ، وَرَدَّ الأمْرَ إلى دِين إبراهيمَ الحنيفِ، والتوحيدِ الذي لأجلِهِ بُنِيَ البيتُ، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (٣).

وأمَّا تسليطُ القَرامِطَةِ (٤) على البيتِ بعد ذلك، فإنَّما كانَ عُقُوبَةً بسبب ذُنُوبِ النَّاسِ، ولم يصِلُوا إلى هَدْمِهِ ونَقْضِهِ وَمَنْعِ النَّاس مِن حَجِّهِ وزيارتِهِ، كما كَان يَفعَلُ أصحابُ الفيلِ لو قَدَرُوا على هَدْمِهِ وصَرْفِ النَّاسِ عن حَجِّهِ. والقرامِطَةُ أخَذُوا الحَجَرَ والبَابَ، وقَتَلوا الحاجَّ وسَلَبُوهم أموالَهم، ولم يتمكَّنُوا مِن منعِ النَّاسِ من حجِّهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا قَدَرُوا على هَدْمِهِ بالكُلِّيَّةِ، كما كانَ أصحابُ الفِيلِ يقصِدُونَهُ. ثم أَذَلَّهم الله بعدَ ذلكَ وخَذَلَهم وهَتَكَ أستَارَهُم، وكَشَفَ أسرَارَهُم.

والبيتُ المُعظَّمُ باقٍ على حالِهِ مِنَ التَّعظيمِ، والزِّيارةِ، والحَجِّ، والاعتِمارِ، والصَّلاة إليه، لم يَبْطُلْ شيءٌ مِن ذلك عنه بحمد الله ومَنِّهِ. وغايةُ أَمرِهِم أنَّهم أخافُوا حاجَّ (٥) العِراقِ حتَّى انقطَعُوا بعضَ السِّنين، ثم عادُوا. ولم يَزلِ الله يمتحِنُ عبادَهُ


(١) لفظ الجلالة لم يرد في (ع، ط).
(٢) قال تعالى [البقرة ١٢٧ - ١٢٩]: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
(٣) سورة الحج، الآية ٢٦.
(٤) القرامِطة: نسبة إلى حمدان قِرْمط، وهو أول دعاتها. ظهر منهم أبو سعيد الجنابي، ثم ابنه أبو طاهر سليمان بن حسن القِرْمطي الجنَّابي، وهو الذي استباح الحجيج كلهم في الحرم سنة (٣١٧) هـ، واقتَلَعَ الحجر الأسود، وردَم زَمْزَمَ بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح:
أنا بالله وبالله أنا … يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وعرَّى البيت الحرام، وأخذ بابه، ونهب أموال الحجاج، وقتل كثيرين منهم، وأرسل الحجر الأسود إلى هجر، وبقي عندهم نيفًا وعشرين سنة. انظر: "المنتظم" لابن الجوزي ٦/ ٣٣٦، و"الكامل" لابن الأثير ٨/ ١٤٣، و "سير أعلام النبلاء" ١٥/ ٣٢٠.
(٥) في ب، ط: "حَجَّ".

<<  <   >  >>