للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العاص يسرُدُ الفِطرَ أحيانًا، ثم يسرُدُ الصَّوْمَ ليتقوَّى بفطرِهِ على صَوْمِه. ومنه قولُ بعضِ الصَّحابة: إنِّي أحتسِبُ نَوْمَتِي كما أحتسِبُ قَوْمتِي.

وفي الحديثِ المرفوعِ: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كالصَّائمِ الصَّابِرِ". خَّرجه الترمذِيُّ (١) وغيرُه.

ولَربَّما ظنَّ بعضُ الجهَّالِ أَنَّ الفِطْر قبلَ رمضانَ يُراد به اغتنامُ الأكلِ؛ لتأخُذَ النُّفوسُ حظَّها مِن الشهواتِ قبلَ أن تُمنَعَ مِن ذلك بالصِّيامِ، ولهذا يقولون: هي أيَّام توديعٍ للأكلِ، وتسمَّى تَنْحِيسًا (٢)، واشتقاقه من الأيام النَّحِسَاتِ. ومَنْ قال: هو تَنهيسٌ، بالهاء، فهو خطأٌ منه، ذكره ابنُ دُرُسْتَوَيْه النَّحوِيُّ، وذكَر أن أَصْلَ ذلك مُتَلقًّى (٣) مِنَ النَّصارى؛ فإنَّهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كلُّه خطأٌ وجَهْلٌ ممن ظنَّه. وربَّما لم يقتصِرْ كثيرٌ منهم على اغتنام الشهواتِ المباحةِ، بل يتعدَّى إلى المحرَّماتِ، وهذا هو الخُسرانُ المُبِينُ. وأنشَدَ بعضُهم في (٤) هذا:

إذا العشرونَ مِن شعبانَ وَلَّتْ … فواصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بالنَّهارِ

ولا تشرَبْ بأقْدَاح صِغارٍ … فإن الوَقْتَ ضَاقَ على الصغارِ

وقال آخر:

جَاءَ شَعْبانُ مُنْذِرًا بالصِّيامِ … فاسْقِيانِي راحًا (٥) بماءِ الغَمَامِ

ومن كانَتْ هذه حالُه فالبهائمُ أعقَلُ منه وله نصيبٌ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (٦). الآية. وربَّما تَكَرَّه كثيرٌ منهم بصيام رمضانَ، حتَّى إنَّ بعضَ السُّفهاءِ مِنَ الشُّعراءِ كان يَسبُّهُ، وكان للرشيد ابنٌ سَفِيهٌ، فقالَ مَرَّةً:

دَعَانِيَ شَهْرُ الصَّوْمِ لَا كَانَ مِنْ شَهْرِ … وَلَا صُمْتُ شَهْرًا بَعْدَهُ آخِرَ الدَّهْرِ


(١) رقم (٢٤٨٨) في صفة القيامة، باب الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وحسَّنه. وأخرجه ابن ماجه رقم (١٧٦٩) في الصيام، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر.
(٢) جاء في اللسان (نحس): "تنحَّس النصارى: تركوا أكل الحيوان".
(٣) في آ: "يتلقى".
(٤) قوله: "في هذا" لم يرد في ب، ط.
(٥) في ع: "خمرًا".
(٦) سورة الأعراف الآية ١٧٩.

<<  <   >  >>