للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَلَو كان يُعْدِيني الأنامُ (١) بقُدْرَةٍ … على الشَّهْير لاسْتَعْدَيْتُ جَهْدِي عَلَى الشَّهْر (٢)

فأخَذَه داءُ الصَّرْعِ، فكانَ يُصْرَعُ في كُلِّ يوم مَرَّاتٍ متعددة، وماتَ قبلَ أن يدركَهُ رمضان آخرُ. وهؤلاء السُّفهاءُ يستثقلُون رمضانَ؛ لاستثقالِهم العباداتِ فيه؛ مِنَ الصَّلاةِ والصِّيام، فكثيرٌ من هؤلاءِ الجُهَّالِ لا يُصلِّي إلَّا في رَمَضَانَ إذا صامَ، وكثيرٌ منهم لا يَجْتَنِبُ كبائِرَ الذُّنوب إلَّا في رمضانَ؛ فيطولُ عليه، ويشُقُّ على نفسِهِ مفارقتها لمألُوفِها، فهو يَعُد الأيَّامَ واللَّياليَ؛ ليعودَ إلى المعصِيَةِ؛ وهؤلاء مُصِرُّونَ على ما فَعَلُوا وهم يَعلمون، فهم هَلْكَى؛ ومنهم مَن لا يصبِرُ على المعاصِي، فهو يواقِعُها في رَمضانَ.

وحكايةُ محمد بن هارون البَلْخي مشهورةٌ قَدْ رُوِيَتْ مِن وُجوهٍ، وهو أنَّه كان مُصِرًّا على شرب الخمر، فجاءَ في آخر يومٍ من شعبانَ وهو سكران، فعاتبَتْهُ أمُّه وهي تَسْجُر تنوُّرًا، فحَمَلَها فألقاها في التَّنُّورِ فاحترقت، وكان بعد ذلك قد تاب وتعبَّدَ، فرؤي له في النَّوم أنَّ الله قد غَفَرَ للحاجِّ كلِّهم سِواهُ. فمن أرادَ اللهُ به خيرًا حَبَّبَ إليه الإيمانَ وزيَّنَه في قَلْبِه، وكَرَّهَ إليه الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، فصارَ من الراشدين (٣). ومَن أرادَ به شرًّا خَلَّى بينَه وبينَ نفسِهِ، فاتبعَهُ الشيطانُ، فحبَّبَ إليه الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصيانَ، فكان من الغاوين.

الحذَرَ الحذَرَ مِنَ المعاصِي! فكَمْ سَلَبَتْ مِن نِعَمٍ، وكم جَلَبَتْ مِن نِقَمٍ، وكَمْ خَرَّبَتْ مِن ديارٍ، وكم أخلَتْ ديارًا مِن أهلِها، فما بقي منهم دَيَّارٌ (٤)، كم أخذَتْ مِن العُصَاةِ بالثارِ، كم مَحَتْ لهم مِن آثارِ.

يا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تأمَنْ عَوَاقِبَهُ … عَوَاقِبُ الذَّنْب تُخْشَى وَهْيَ تنْتَظَرُ

فَكل نَفْسٍ سَتُجْزَى بالَّذي كَسَبَتْ (٥) … ولَيْسَ لِلْخَلْقِ مِن دَيَّانِهم وَزَرُ (٦)


(١) في آ: "الإمام"، وأراد به الخليفة.
(٢) يعديني: يعينني. واستعدى: طلب العون.
(٣) من قوله تعالى في سورة الحجرات الآية ٧: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
(٤) أي ما بقي منهم أحد.
(٥) في آ: "فكل نفس امرئٍ تجزى بما كسبت".
(٦) الدَّيَّان: من أسماء الله تعالى، ومعناه الحكَم القاضي. والوَزَر: الملجَأ.

<<  <   >  >>