للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يا معشر التائبين! صُوموا اليومَ عن شهواتِ الهوى؛ لتُدْرِكوا عِيْدَ الفطر يوم اللِّقاءِ، لا يَطُولَن عليكم الأمد (١) باستبطاء الأجل؛ فإن معظم نهارِ الصِّيامِ قد ذهب، وعيدُ اللقاء قد اقترب.

إنَّ يومًا جامعًا شَمْلِي بهم … ذاك عيدي ليس لي عيد سِوَاه

قوله: "ولَخُلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المِسْكِ"، خُلُوفُ الفم: رائحةُ ما يتصاعَدُ منه من الأبخرة؛ لخلوِّ المعِدَة من الطعامِ بالصِّيام. وهي رائحة مستكرهةٌ في مشام النَّاس في الدُّنيا، لكنَّها طيِّبَةٌ عِندَ الله حيثُ كانت ناشئةً عن طاعته، وابتغاءِ مرضاته. كما أن دَمَ الشهيد يجيء يومَ القيامة يَثْعَبُ (٢) دمًا، لونُه لونُ الدَّم، وريحُه ريحُ المِسْكِ. وبهذا استدلَّ من كرِه السِّواكَ للصَّائم، أو لم يستحبه من العلماء. وأوَّلُ مَن عَلِمناه استَدَلَّ بذلك عطاءُ بنُ أبي رَباح. ورُوي عن أبي هريرة أنَّه استدَلَّ به، لكن من وَجْهٍ لا يثبت. وفي المسألة خلاف (٣) مشهور بين العلماء. وإنَّما كَرِهَهُ مَن كرِهَهُ في آخرِ نهارِ الصَّوْم؛ لأنَّه وقتُ خُلُوِّ المعدةِ وتصاعُدِ الأبخرة. وهَلْ يدخُلُ وقتُ الكراهةِ بصلاة العصر، أو بزوال الشمس، أو بفعلِ صلاة الظهر في أوَّل وقتِها، على أقوال ثلاثةٍ، والثالثُ هو المنصوص عن أحمدَ. وفي طيب ريح خُلُوفِ الصَّائم عندَ الله عزَّ وجلَّ معنيان:

أحدُهما: أن الصِّيام لمَّا كان سِرًّا بين العبد وَرَبِّه في الدنيا، أظهرَهُ الله في الآخرة علانيةً للخَلْقِ؛ ليشتهر بذلك أهلُ الصِّيام، ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صِيَامَهُم في الدُّنيا. وروى أبو الشيخ الأصبهانيُّ بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن أنس مرفوعًا: "يخرُجُ الصَّائمونَ مِن قُبُورهم يُعْرَفون بريحِ أَفْوَاهِهِمْ، أفواهُهُم أَطْيَبُ من ريح المِسْكِ" (٤).


(١) "في ب، ط: "الأمل".
(٢) في ط: "يثغب" بالغين، وهو تحريف. ومعنى يثعب: يجري.
(٣) في آ، ش، ع: "اختلاف".
(٤) بعض حديث في كنز العمال ٨/ ٢٣٦٤٤؛ وعزاه إلى أبي الشيخ في الثواب والديلمي عن أنس. وتمامه: "إذا كان يوم القيامة يخرج الصوَّام من قبورهم يُعْرَفون بريح صيامهم، أفواههم أطيب من ريح المسك، يُلقَّون بالموائد والأباريق مختمة بالمسك، فيقال لهم: كلوا =

<<  <   >  >>