للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لمَّا كان معاملة المخلصين بصيامهم لمولاهم سِرًّا بينه وبينَهُم، أظهَرَ اللهُ سِرَّهم لعباده فصار علانيةً، فصار هذا التجلِّي والإظهار جزاءً لذلك الصَّوْنِ والإِسْرارِ.

في الحديث: "ما أسَرَّ أحَدٌ سَرِيرةً إلَّا أَلْبَسَهُ الله رِداءَها عَلَانيةً" (١).

قال يوسُف بن أَسْبَاطٍ (٢): أوحَى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قُلْ لقومِك يُخفون لي أعمالهم، وعليّ إظهارُها (٣) لهم.

تذلُّلُ أربابِ الهوَى في الهوى عِزُّ … وفَقْرُهُمُ نَحْوَ الحبيبِ هُوَ الكَنْزُ

وسَتْرُهُمُ فَيه السَّرائرَ شُهرةٌ … وغيرُ تلافِ النَّفسِ فيه هُو العَجْزُ

والمعنى الثاني: أن مَن عَبَدَ الله وأطاعَهُ، وطلَبَ رضَاهُ في الدنيا بعَمَل، فنشَأَ مِن عمله آثارٌ مكروهةٌ للنفوس في الدنيا، فإنَّ تلك الآثار غيرُ مكروهةٍ عندَ اللهِ، بل هي محبوبةٌ له وَطَيِّبَةٌ عندَه؛ لكونِها نشأتْ عن طاعته واتباعِ (٤) مَرضاته. فإخبارُهُ بذلك للعاملين في الدُّنيا فيه تطييبٌ لقلوبهم؛ لئلَّا يكرَه منهم ما وُجِدَ في الدنيا. قال بعضُ السَّلَف: وَعَدَ الله موسى ثلاثين ليلة (٥) أن يكلِّمه على رأسِها؛ فصام ثلاثين يومًا، ثم وَجَدَ مِن فِيه خُلُوفًا، فَكَرِهَ أن يناجِيَ رَبَّه على تلك الحالِ، فأَخَذَ سِواكًا فاسْتاكَ به، فلمَّا أتَى لموعِدِ اللهِ إيَّاهُ، قال له: يا موسى، أَمَا علمتَ أن خُلُوفَ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندنا مِن ريح المِسْكِ، ارْجِع فصُمْ عَشَرَةً أخرى.

ولهذا المعنى كان دَمُ الشَّهيد ريحُهُ يومَ القيامة كريحِ المِسْكِ، وغُبَارُ المجاهدين في سبيلِ الله (٦) ذَرِيرةُ أهل الجنَّة.

ورد في ذلك حديثٌ مرسَلٌ. كُلُّ شيءٍ ناقِصٌ في عُرْفِ الناسِ في الدُّنيا؛


(١) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٢٢٥ عن جندب بن سفيان، وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حامد بن آدم وهو كذاب". وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" ٥/ ٨١ وقال: "ضعيف جدًّا". ونص الحديث: "ما أسرَّ عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر".
(٢) هو من قرية يقال لها شيح، وكان من الزهاد، له مواعظ وحكم، نزل الثغور مرابطًا، مات قبل المائتين بسنة. (صفة الصفوة ٤/ ٢٦١، سير أعلام النبلاء ٩/ ١٦٩).
(٣) في آ، ش: "أظهرها لهم".
(٤) في آ: "وابتغاء".
(٥) في آ، ش: "ثلاثين يومًا".
(٦) في آ، ش، ع: "في سبيله". والذَّريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط.

<<  <   >  >>