للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا يُحمَلُ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه. هذا وأنَّ الجهادَ أفضَلُ مِن الحجِّ المتطوَّعِ به، فإِنَّ فَرْضَ الحَجِّ تأخَّرَ عندَ كثيرٍ من العلماءِ إِلى السَّنَة التاسِعةِ، ولعَلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام قبلَ أن يُفرَضَ الحجُّ بالكليَّة، فكان حينئذٍ تطوُّعًا.

وقد قيل: إِن الجهاد كان في أوَّلِ الإِسلام فرضُ عَيْنٍ، فلا إِشكالَ في هذا على تقديمه على الحَجِّ قبلَ افتراضِهِ. فأما بعد أن صارَ الجهادُ فَرْضَ كِفايةٍ والحجُّ فَرْضَ عَيْنٍ؛ فإِنَّ الحَجَّ المفترضَ حينئذٍ يكونُ أفضَلَ مِن الجهادِ. قال عبدُ الله بن عمرو بن العاص: حَجَّةٌ قَبْلَ الغَزْوِ أفضَلُ مِن عشر غَزَواتٍ، وغزوةٌ بعدَ حجَّةٍ أفضَلُ مِن عشر حجاتٍ. ورُوِي ذلك مرفوعًا من وجوهٍ متعدِّدَةٍ، في أسانيدِها مقالٌ. وقال الصُّبَيّ (١) بن مَعْبَدٍ: كنت نصرانيًّا فأسلمْتُ، فسألْتُ أصحابَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: الجِهادُ أفضَلُ أم الحجُّ؟ فقالوا: الحَجُّ. والمرادُ - والله أعلم - أنَّ الحَجَّ أفضَلُ لمن لم يحجَّ حَجَّةَ الإِسلام، مثل هذا الذي أسلم. وقد يكون المرادُ بحديثِ أبي هريرة (٢) رضي الله عنه أنَّ جِنْسَ الجِهادِ أشرَفُ مِن جنسِ الحَجِّ، فإِن عرض للحج وصفٌ يمتاز به على الجِهاد، وهو كونه فَرْضَ عينٍ، صار ذلك الحجُّ المخصوصُ أفضَلَ مِن الجهاد، وإِلَّا فالجهادُ أفضَلُ، والله أعلم.

وقد دَلَّ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه على أنَّ أفضَلَ الأعمال بعدَ الجهاد في سبيل الله جنسُ عِمارة المساجِد؛ بذكرِ اللهِ وطاعتِه، فيدخُلُ في ذلك الصلاةُ والذِّكْرُ والتِّلاوةُ والاعتِكافُ وتعليمُ العِلْم النافع واستماعُهُ. وأفضَلُ ذلك (٣) عِمارَةُ أفضَلِ المساجِدِ وأشرفِها، وهو المسجِدُ الحرامُ، بالزِّيارة والطَّوافِ؛ فلهذا خَصَّه بالذكر وجَعَلَ قصْدَهً للحجِّ أفضَلَ الأعمال بعدَ الجهاد. وقد خرَّجه ابنُ المنذر (٤) ولفظُه: "ثم حَجٌّ مبرورٌ أو عمرَةٌ".


(١) في آ، ع: "الضَّبَيّ"، وفي ب: "الصَّبَيّ". وهو تصغير صُبَيّ بن مَعْبَد التغلبي الكوفي. قال مسلمة بن قاسم: تابعي ثقة، رأى عمر بن الخطاب وعامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. (تهذيب التهذيب ٤/ ٤٠٩).
(٢) ذكر في بداية المجلس.
(٣) في ط: "من ذلك".
(٤) هو الحسن بن الحسن بن علي بن المنذر البغدادي. قال الخطيب البغدادي: كتبنا عنه، وكان صدوقًا ضابطًا، كثير الكتاب، حسن الفهم، حسن العلم بالفرائض. ولي القضاء، مات ببغداد سنة ٤١١ هـ. (تاريخ بغداد ٧/ ٣٠٤، سير أعلام النبلاء ١٧/ ٣٣٨).

<<  <   >  >>