للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غزوة تبوكَ، فطلبوا منه أن يحملَهم، فقال لهم: لا أجِدُ ما أحملُكُم عليه، فرَجعُوا وهم يبكون حزنًا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال بعضُ العلماء: هذا واللهِ بكاءُ الرجال، بَكوا على فقدهم رواحِلَ يتحمَّلُون عليها إِلى الموت في مواطِنَ تُرَاقُ فيها الدِّماء في سبيل الله، وتنزعُ فيها رؤوس الرِّجال عن كواهلها بالسّيوف. فأمَّا مَن بَكَى على فَقْد حَظِّه من الدُّنيا وشهواتِهِ العاجلة، فذلك شبيهٌ ببكاء الأطفال والنساء على فَقْدِ حظوظهم العاجلة:

سَهَرُ العُيونِ لِغَيْرِ وَجْهِكَ باطِلٌ … وبكاؤهُنَّ لِغَيْرِ فَقْدِكَ ضَائعُ

إنما يحسُنُ البكاءُ والأسفُ على فَوَاتِ الدَّرجاتِ العُلَى والنَّعيم المقيم. قال بعضُهم: يُرَى رجلٌ في الجنَّة يبكي، فيُسْأَلُ عن حالِه، فيقول: كانت لي نفس واحِدةٌ قُتِلَتْ (١) في سبيل الله، وودِدْتُ أنَّه كانت لي نفوسٌ كثيرة تُقْتَلُ كلُّها في سبيله. غزا قومٌ في سبيل الله، فلمَّا صافُّوا عدوِّهم واقتتلوا، رأى كُلُّ واحدٍ منهم زوجتَهُ من الحُورِ قد فتحَتْ بابًا من السَّماء، وهي تستدعي صاحبَها إِليها وتحثُّه على القتال، فقُتلوا كلُّهم إِلَّا واحدًا. وكان كلَّما قُتِلَ منهم واحدٌ غُلِّق (٢) بابٌ وغابَتْ منه المرأة، فأُفْلِتَ آخِرُهم، فأغلَقَتْ تلك المرأةُ البابَ الباقي، وقالت: ما فاتَكَ يا شقي! فكان يبكي على حالِه إِلى أن مات، ولكنَّه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.

على مِثْل لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نفْسَهُ … وإِنْ كانَ مِن لَيْلَى علَى الهَجْر طَاوِيا

لما سمِعَ الصَّحابة رضي الله عنهم قول الله عزَّ وجلَّ {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (٣) {سَابِقُوا (٤) إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (٥) فهِمُوا من ذلك أنَّ المراد أن يجتهدَ كُلُّ واحدٍ منهم أن يكونَ هو السابقَ لغيرِه إِلى هذه الكرامة، والمسارِعَ إِلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدُهم اذا رأى مَن يعمَلُ


(١) في ع: "فقتلت".
(٢) في ب، ع: "أغلق".
(٣) سورة البقرة الآية ١٤٨، وسورة المائدة الآية ٤٨.
(٤) في ع: "وقوله: سارعوا"، وهي في سورة آل عمران الآية ١٣٤.
(٥) سورة الحديد الآية ٢١.

<<  <   >  >>