للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عملًا يعجِزُ عنه، خَشِي أن يكونَ صاحِبُ ذلك العمل هو السابقَ له، فيحزنَ لفوات سَبْقِهِ. فكان تنافُسُهم في دَرَجَاتِ الآخرةِ واستباقُهم إِليها، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (١). ثم جاء مَنْ بعدَهُم، فَعَكَسَ الأمْرَ، فصار تنافُسُهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.

قال الحسن: إِذا رأيتَ الرجل ينافسك في الدُّنيا فنافِسْه في الآخرة. وقال وُهَيْب بن الوَرْد: إِن استطعْتَ ألا يسبقكَ إِلى اللهِ أحدٌ فافْعَلْ. وقال بعضُ السَّلَف: لو أنَّ رجلًا سَمِعَ بأحَدٍ أطوَعَ لله منه، كان ينبغي له أن يُحزِنَه ذلك. وقال غيرُه: لو أنَّ رجلًا سمِعَ برجُلٍ أطوَعَ لله منه فاَنْصَدَعَ قلبُه فمات، لم يكن ذلك بعجبٍ. قال رجلٌ لمالك بن دينار: رأيتُ في المنام مناديًا ينادي: أيُّها الناس! الرَّحيلَ الرحيلَ، فما رأيْتُ أحدًا يرتحِلُ إِلَّا محمد بن واسِعٍ؛ فصاح مالك وغُشي عليه {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (٢). قال عمر بن عبد العزيز في حجةٍ حجَّها عند دَفْعِ الناس مِن عَرَفَةَ: ليس السَّابقُ اليومَ مَن سَبَقَ به بعيرهُ، إِنَّما السَّابقُ مَن غُفِرَ له.

كان رأسُ السَّابقين إِلى الخيرات من هذه الأمَّة أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، قال عمر: ما استبقنا إِلى شيءٍ من الخير إِلَّا سَبَقَنَا أبو بكرٍ، وكان سبَّاقًا بالخيرات.

ثم كان السَّابق بعدَه إِلى الخيرات عُمر، وفي آخر حجَّةٍ حجَّها عُمَرُ جاء رجُلٌ لا يُعْرَفُ، كانوا يرونه مِن الجن، فرثاه بأبيات منها:

فمن يَسْعَ أو يَرْكَبْ جناحَيْ نَعَامَةٍ .. لِيدْرِكَ ما قدَّمْتَ بالأمْسِ يُسْبَقِ

صاحب الهمَّةِ العالية والنفس الشريفة التوَّاقَةِ لا يرضَى بالأشياء الدنية الفانية، وإِنَّما هِمَّتُه المسابقةُ إِلى الدَّرَجَاتِ الباقية الزاكية، التي لا تَفْنَى ولا يرجِعُ عن مطلوبِه، ولو تَلِفَتْ نفسُه في طلبه. ومن كان في الله تلفُهُ كان على الله خلَفُه. قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لِمَ تعذِّب هذا الجسد؟ قال: كرامتَهُ أريدُ.


(١) سورة المطففين الآية ٢٦.
(٢) سورة الواقعة الآيات ١٠ - ١٢، وانظر الخبر في "صفة الصفوة" ٣/ ٢٦٧.

<<  <   >  >>