للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإِذا كانت النُّفُوسُ كِبَارًا … تَعِبَتْ في مُرَادِها الأَجْسَامُ (١)

قال عمر بن عبد العزيز: إِنَّ لي نفسًا تَوَّاقةً، ما نالَتْ شيئًا إِلَّا تاقَتْ إِلى ما هو أفضلُ منه، وإِنَّها لمَّا نالَتْ هذه المنزِلَة - يعني الخلافة - وليس في الدنيا منزلةٌ أعلَى منها، تاقَتْ إِلى ما هو أعلى من الدنيا، يعني الآخِرَةَ.

على قدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تأتي العَزَائمُ … وتأتي علَى قدْرِ الكِرامِ المكارِمُ (٢)

قِيمةُ كُلِّ إِنسان ما يطلُبُ؛ فمن كان يطلبُ الدنيا فلا أدنى منه؛ فإِنَّ الدنيا دنيَّة، وأدنَى منها مَن يطلبها، وهي خسِيسَةٌ؛ وأخسُّ منها من يخطُبُها (٣). قال بعضُهم: القلوبُ جوَّالةٌ، فقلْبٌ يجولُ حولَ العَرْشِ، وقلْبٌ يجولُ حول الحشِّ (٤). الدُّنيا كلُّها حشٌّ، وكُلُّ ما فيها من مَطْعَمٍ ومَشْربٍ يؤول إِلى الحشّ، وما فيها من أجسامٍ ولباسٍ يصير ترابًا، كما قيل (٥):

* وَكُلُّ الَّذي فَوْقَ التُّرابِ تُرَابُ *

وقال بعضُهم في يوم عيدٍ لإِخوانه: هل تنظرون إِلَّا خِرَقًا تبلَى، أو لحمًا يأكلُه الدُّود غدًا. وأمَّا مَن كان يطلبُ الآخرة فقدْرُهُ خطيرٌ؛ لأنَّ الآخِرَةَ خطيرةٌ شريفةٌ؛ ومن يطلبها أشْرفُ منها، كما قيل:

أُثامِنُ (٦) بالنَّفْسِ النَّفيسة ربَّها … وليس لها في الخَلْقِ كُلِّهم ثَمَنْ


(١) في آ، ب، ش، ط: "الأجساد"، والتصحيح من نسخة (ع) وديوان المتنبي ٢/ ٢٤٥، من قصيدة في مدح سيف الدولة الحمداني، مطلعها:
أينَ أَزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمَامُ … نحنُ نَبْتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمامُ
(٢) مطلع قصيدة مشهورة للمتنبي، يمدح فيها سيف الدولة ويذكر بناءه ثغر الحدث. (ديوانه ٢/ ٢٦٩).
(٣) في آ، ش: "عظَّمها".
(٤) الحش، بضم الحاء وفتحها: المخرج؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، والجمع حشوش. وفي الحديث: "إِنَّ هذه الحُشوش محتضرة" يعني الكُنُف ومواضِعَ قضاء الحاجة. ومن معاني الحش: البستان، والنخل المجتمع، والمتوضأ.
(٥) عجز بيت للمتنبي (ديوانه ١/ ١٤٠)، وتمامه:
إِذا نِلْتُ مِنْكَ الوُدَّ فالمالُ هَيِّنٌ … وكُلُّ الذي فَوْقَ التُّراب تُرَابُ
(٦) أي: أساوم. يقال: ثامَنتُ الرجل في المبيع أُثامِنُه، إِذا قاوَلته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه. (اللسان: ثمن).

<<  <   >  >>