للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حاكيًا عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (١) إِلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (٢). فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تأَسُّفَ أصحابه الفقراءِ وحُزنَهم على ما فاتَهم من إِنفاق إِخوانهم الأغنياءِ أموالَهم في سبيل الله تقرُّبًا إِليه وابتغاءً لمرضاتِهِ، طَيَّبَ قلوبَهم ودلَّهم على عملٍ يسيرٍ يُدرِكُون به عن سَبَقَهم ولا يلحَقُهم معه أحَدٌ بعدَهم، ويكونون به خيرًا مِمَّن هم معه إِلَّا مَن عمِلَ مثلَ عملِهم، وهو الذِّكر عَقيبَ (٣) الصَّلوات المفروضات، وقد اختلفَتِ الرواياتُ في أنواعِه وعددِه. والأخذُ بكُلِّ ما ورد مِن ذلك حَسَنٌ ولَهُ فضلٌ عظيمٌ.

وفي حديث أبي هريرة هذا أنَّهم يسبِّحون ويحمَدُون ويكبِّرون خَلْفَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين. وقد فسَّره أبو صالحٍ راويه عنهُ بالجمع، وهو أن يقولَ: سبحان الله، والحمدُ لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين مرَّةً، فيكون جُمْلَةُ ذلك تسعًا وتسعين. وقد يستشكل على هذا حديثُ أنَّ رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يعدِلُ الجِهادَ، فقال: "هل تَسْتَطِيعُ إِذا خَرَجَ المجاهِدُ أنْ تصومَ فلا تُفْطِر، وتَقُومَ ولا تَفْتُرَ" (٤). وهو حديثٌ ثابت صحيح أيضًا. فلم يجعل للجهاد عَدْلًا سوى الصِّيام الدَّائم والقيام الدَّائم. وفي هذا الحديث قد جَعَلَ الذِّكْر عقِيبَ الصَّلوات عِدْلًا له. والجمع بين ذلك كُلِّه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل للجِّهاد في زمانه عملًا يعدِلُه، بحيث إِذا انقضى الجهاد انقضَى ذلك العمل، واستوى العاملُ مع المجاهد في الأجر، وإِنَّما جعل الذي يعدِلُ الجهادَ الذكرَ الكثيرَ المستدامَ في بقية عمر المؤمن من غير قطعٍ له حتى يأتي صاحبَه أجلُه، فإِذا استمَرَّ على هذا الذِّكر في أوقاته إِلى أن مات عليه عَدَلَ ذكرُه هذا الجهادَ.


(١) سورة القصص الآية ٧٩ و ٨٠.
(٢) الآية ٨٣ من سورة القصص.
(٣) في ب، ط: "عقب".
(٤) أخرجه البخاري ٦/ ٤ رقم (٢٧٨٥) في الجهاد: باب فضل الجهاد والسير، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه النسائي ٦/ ١٩ في الجهاد، والبيهقي في "سننه" ٩/ ١٥٨، وابن أبي شيبة في "مصنفه" ٥/ ٣٣٣. ورواه الإِمام أحمد في "المسند" ٢/ ٣٤٤.

<<  <   >  >>