للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حَبْس اللسان، ولو أصبحْت يهمُّكَ لسانُكَ أصبحْت في هَمٍّ شديدٍ. ليس الاعتبار بأعمال البِرِّ بالجوارح، إِنَّما الاعتبار بِبِرِّ (١) القلوب وتقواها، وتطهيرها عن الآثام. سَفَرُ الدنيا يقطعُ (٢) بسير الأبدان، وسَفَرُ الآخرة يقطع (٢) بسير القلوب.

قال رجلٌ لبعض العارفين: قد قطعْتُ إِليك مسافةً، قال: ليس هذا الأمر بقطْعِ المسافات، فارِقْ نفسَكَ بخُطْوَةٍ وقد وصَلْت إِلى مقصودِك. سيْرُ القلوب أبلَغُ من سَيْر الأبدان. كم من واصلٍ ببدنه إِلى البيت وقلبُهُ منقطِعٌ عن رَبِّ البيت، وكم مِن قاعدٍ على فراشِهِ في بيته وقلبُه متَّصِلٌ بالمحلِّ الأعلى.

جِسمى معي غيرَ أنَّ الرُّوحَ عِندَكُمُ … فالجِسْمُ في غُرْبَةٍ والرُّوحُ في وَطنِ

قال بعضُ العارفين: عجبًا لمن يقطَعُ المفاوِزَ والقِفار؛ ليصِلَ إِلى البيت فيشاهِدَ فيه آثارَ الأنبياء، كيف لا يقطَعُ هواهُ ليصِل إِلى قلبه فيَرَى فيه أثَرَ "ويسمعني قلبُ عَبْدِي المؤمن". أيُّها المؤمنُ، إِنَّ لله بين جنبيك بيتًا لو طَهَّرْته لأشرَقَ ذلك البيتُ بنورِ رَبِّه وانشرح وانْفَسَحَ. أنشد الشِّبْلِيُّ (٣):

إِنَّ بيتًا أَنْتَ ساكِنُهُ … غَيْرُ مُحْتاجٍ إِلى السُّرُجِ

ومريضًا (٤) أنْتَ عائِدُهُ … قَدْ أَتَاهُ الله بالفَرَجِ

وَجْهُكَ المأمُولُ حُجَّتُنا … يومَ يأتي النَّاسُ (٥) بالحُججِ

تطهيرُه (٦): تفريغُه مِن كُلِّ ما يكرَهُهُ اللهُ تعالى من أصنامِ النَّفس والهَوَى، ومتَى بقيَتْ فيه مِن ذلك بقيَّةٌ، فاللهُ أغنَى الأغنياء عن الشِّرْك، وهو لا يرْضَى بمزاحمة الأصنام. قال سهل بنُ عبد الله (٧): حرامٌ على قلبٍ أن يدخُلَهُ النُّورُ وفيه شيء مِمَّا يكرهُهُ اللهُ.


(١) في ب، ط: "بلين القلوب".
(٢) في ب، ط: "ينقطع".
(٣) ديوان الشبلي ص ١٣٩ ضمن أبيات خمسة فيما نسب إِليه من شعر.
(٤) في الديوان: "وعليلًا".
(٥) في ع: "تأتي النفوس"، وفي ب: "يأتي الله"، وفي هامش:"الناس".
(٦) في ش، ع: "تطهير القلب".
(٧) سهل بن عبد الله بن يونس، أبو محمد التُّسْتُري، الصوفي الزاهد، شيخ العارفين، لقي في الحج ذا النون المصري، وصحبه. له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدَم راسخ في الطريق، توفي سنة ٢٨٣ هـ. (سير أعلام النبلاء

<<  <   >  >>