للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قتلَها، ويُلِمُّ به، فتمرض منه مَرَضًا مخوفًا مقاربًا للموت، فهذا مَثَلُ مَن يأخُذ من الدنيا بشَرَهٍ وجُوعِ نَفْسٍ من حيثُ لاحَتْ له، لا بقليلٍ يقنع، ولا بكثيرٍ يشبع، ولا يحلل ولا يحرِّمُ، بل الحلال عنده ما حلَّ بيده وقَدَرَ عليه، والحرام عنده ما مُنِعَ منه وعَجَزَ عنه. فهذا هو المتخوِّضُ في مال الله ورسوله فيما شاءت نفسُه، وليس له إلَّا النَّار يومَ القيامة، كما في حديث خَوْلَةَ المتقدِّم.

والمراد بمال الله ومالِ رسوله الأموالُ التي يجب على وُلاة الأمور حِفظُها وصَرفُها في طاعة الله ورسوله من أموال الفيء والغنائم، ويتبع ذلك مالُ الخراج والجزية، وكذلك أموالُ الصَّدقات التي تُصرف للفقراء والمساكين، كمالِ الزَّكاة والوقف ونحو ذلك. وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ من تخوَّض من الدُّنيا في الأموال المحرَّمِ أكلُها، كمالِ الرِّبا، ومال الأيتام الذي مَن أكله أَكَلَ نارًا، والمغصوب، والسَّرقة، والغشِّ في البيوع، والخِداع والمكر وَجَحْد الأمانات والدَّعاوَى الباطلة، ونحوِها من الحيل المحرمة، أولى أن يتخوَّض صاحبُها في نار جهنم غدًا. فكلُّ هذه الأموال وما أشبهَها يتوسَّع بها أهلُها في الدنيا ويتلذَّذون بها، ويتوصَّلون بها إلى لذَّات الدنيا وشهواتها، ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصيرُ جَمْرًا من جَمْر جهنَّم في بطونهم، فما تفي لذَّتُها بتبعتها، كما قيل:

تَفْنَى اللَّذاذَةُ مِمَّن نَالَ لَذَّتَها … مِنَ الحَرَامِ ويَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِن مغبَّتِها … لا خَيْرَ في لذَّةٍ مِن بَعْدِها النَّارُ

فلهذا شَبَّهَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَن يأخُذ الدنيا بغير حقِّها، ويضعُها في غير حقِّها، بالبهائم الراعِية من خضراء (١) الربيع حتى تنتفخَ بطونُها من أكلِه؛ فإمَّا أن يقتلَها، وإمَّا أن يقارِبَ قتلها. فكذلك مَن أخذ الدنيا من غير حقِّها ووضَعَها في غير وجهها (٢)؛ إمَّا أن يقتُلَه ذلك فيموتَ به قلبُه ودينُه، وهو من مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاحِ حال، فيستحقُّ النَّارَ بعمله؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا


(١) في آ، ش، ع: "خضر".
(٢) في ش، ع: "حقِّها".

<<  <   >  >>