للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (١). وهذا هو الميتُ حقيقةً؛ فإنَّ الميت من مات قلبه، كما قيل (٢):

لَيْسَ مَن ماتَ فاسْتراحَ بميْتٍ … إنَّما المَيْتُ ميِّتُ الأَحْيَاءِ

وإمَّا أن يقاربَ موته ثم يُعافَى، وهو مَن أفاق من هذه السكرة وتاب، وأصلح عمله قبلَ موته. وقد قال عليّ رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام حَمَلَةِ العلم: أو منهومٌ باللذات سلِسُ القياد للشهوات، أو مُغْرًى بجمع الأموال والادخار، وليسوا (٣) من رعاة الدين أقربُ شبهًا بهم الأنعامُ السارحة. وفي الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرًا:

نَهَارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلةٌ … ولَيْلُك نومٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ

[تُسَرُّ بما يفنَى وتفرحُ بالمنى … كما سُرَّ باللَّذات في النوم حالِمُ] (٤)

وتتعبُ فيما سوْفَ تكرَهُ غِبَّهُ … كذلك في الدُّنيا تَعِيشُ البَهَائمِ

وأمَّا اسْتثناؤه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك "آكِلةَ الخَضِرِ" فمرادُه بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقِّها مقدارَ حاجته، فإذا نفِد واحْتاج عاد إلى الأَخْذ منها قَدْرَ الحاجة بحقِّه. وآكِلةُ الخَضِر: دُوَيْبَّةٌ تأكُل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل، ثم تصرِفُه عنها فتستقبل عينَ الشمس، فتصرف (٥) بذلك ما في بطنها وتخرج (٦) منه ما يؤذيها من الفضلات. وقد قيل: إنَّ الخَضِر ليس من نبات الربيع عند العرب، إنما هو مِن كلإِ الصيف بعدَ يَبْسِ العُشب وهَيْجه واصْفرارِه، والماشية من الإِبل لا تستكثر


(١) سورة محمد الآية ١٢.
(٢) هذا البيت شاهد على الجمع بين التشديد والتخفيف في لفظ "ميت"، وقد فرقوا بينهما في المعنى، فقيل: الميْت للذي مات، والميِّت والمائت للذي لم يمت بعد. والبيت أحد أبيات ثلاثة لعدي بن الرَّعلاء، ذكرها صاحب اللسان والتاج (موت)، وهي:
ليس من مات فاسْتراح بمَيْت … إنما المَيْت مَيِّتُ الأحياءِ
إنَّما المَيْتُ مَن يعيشَ شقيًّا … كاسفًا بالُه قليل الرَّجاءِ
فأناسٌ يُمَصِّصُون ثِمادًا … وأناسٌ خُلُوقُهم في الماءِ
(٣) في آ: "وأما"، وفي ب: "وليسا"، وفي ع: "ولسنا"، وفي ش: "وليس"، وأثبت ما جاء في ط.
(٤) زيادة من نسخة (آ).
(٥) في آ، ش: "فيصرف".
(٦) في آ، ش: "ويخرج".

<<  <   >  >>