للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منه، بل تأخذ منه قليلًا قليلًا، ولا تَحْبَطُ بطونُها منه. فهذا مثل المؤمن المقتصِد من (١) الدنيا؛ يأخُذُ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها، قَدْرَ بُلْغَتِه وحاجتِه، ويجتزِئ من متاعِها بأدونِه وأخشنِه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلَّا إذا نفِدَ ما عندَه وخرجَت فضلاته، فلا يوجِبُ له هذا الأخْذُ ضَررًا ولا مَرَضًا ولا هلاكًا، بل يكون ذلك بلاغًا له، ويتبلَّغ به مُدَّة حياته، ويعينُه على التزوُّد لآخرته. وفي هذا إشارة إلى مدح مَن أخذ من حلال الدنيا بقدر بُلْغَتِه وقنعَ بذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَفْلَحَ مَن هَدَاهُ اللهُ إلى الإسلام، وكان عيشُه كفافًا فقنِعَ به" (٢). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الرِّزْقِ ما يكفي " (٣). وقال: "اللهم! اجْعَلْ رِزْقَ آلِ محمَّد قُوتًا" (٤).

خُذْ مِن الرِّزق ما كَفَى … وَمِنَ العَيْشِ ما صَفَا

كُلُّ هذا سينقضِي … كسِراجٍ إذا انْطَفا

ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا المال خَضِرة حُلْوةٌ" فأعاد مرةً ثانية تحذيرًا من الاغترار به، فخضرته بهجةُ منظرِه، وحلاوتُه طِيبُ طَعْمِه؛ فلذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه، ولكن لو فكرتْ في عواقبه لهربَت منه. الدنيا في الحال حُلوة خضِرةٌ، وفي المآل مُرَّةٌ كدِرَةٌ؛ نعمَتْ المرضِعَةُ، وبئست الفاطمةُ!


(١) في آ، ش: "في الدنيا".
(٢) رواه مسلم رقم (١٠٥٤) في الزكاة: باب في الكفاف والقناعة، والترمذي رقم (٢٣٤٩) في الزهد: باب ما جاء في الكفاف، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه: "قد أفلح من أسلم، وَرُزِق كفافًا". وأخرجه الترمذي أيضًا رقم (٢٣٥٠) من حديث فضالة بن عبيد، ولفظه: "طُوبى لمن هُدِي للإِسلام، وكان عيشه كفافًا وقَنِع". وابن ماجه رقم (٤١٣٨) في الزهد: باب القناعة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه: "قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، ورُزق الكفاف، وقَنع به". ورواه أحمد في "المسند" ٢/ ١٦٨، ١٧٣ بنحو رواية مسلم.
(٣) رواه أحمد في "المسند" ١/ ١٧٢، ١٨٠، ١٨٧، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٨١ وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبينة، وقد وثقه ابن حبان، وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص، قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح". وفي "الترغيب" ٤/ ١٦١: "رواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي". وقد صححه ابن حبان (٢٣٢٣) موارد.
(٤) وفي رواية أخرى: "كفافًا". أخرجه البخاري رقم (٦٤٦٠) في الرقاق: باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم رقم (١٠٥٥) في الزهد، والترمذي رقم (٢٣٦٢) في الزهد: باب ما جاء في معيشة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه رقم (٤١٣٩) في الزهد: باب القناعة.

<<  <   >  >>