للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والطَّيرُ يقرأ والغديرُ صحيفة … والرِّيح يكتبُ والغمامُ يُنَقِّطُ

رُؤي بعضُ الشعراء المتقدِّمين في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله، فقال: غُفِرَ لي بأبياتٍ قلتها في النَّرجس، وهي:

تَفَكَّرْ في نباتِ الأَرْضِ وانْظُرْ … إلى آثارِ ما صَنَعَ المليكُ

عيونٌ من لُجينٍ ناظِراتٌ … بأحداقٍ هِيَ الذَّهبُ السَّبيكُ

على قُضُبِ (١) الزَّبَرْجَد شاهدات … بأنَّ الله ليس له شَريكُ

سبحان مَن سبَّحت المخلوقاتُ بحمده، فملأ الأكوانَ (٢) تحميدُه، وأفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته، فوَضَحَ توحيدُه، يُسبِّحه النباتُ جمعُه وفريدُه، والشَّجرُ عتيقُه وجديدُه، ويمجِّدُه رُهبان الأطيار (٣) في صوامع الأشجارِ، فيطرِبُ السَّامعَ تمجيدُه، كلَّما دَرَّسَ الهَزَارُ (٤) درس شكره فالبلبلُ بالحَمْدِ مُعِيدُه، وكلَّما أقام خطيبُ الحمام النَّوح على منابر الدَّوْحِ هيَّجَ المستهامَ نوحُهُ وتغريدُه، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (٥).

واعجبًا للمتقلِّب بين مشاهدة حِكَمه وتناولِ نعمه، ثم لا يشكر نِعمَه ولا يُبصِر حِكَمه، وأعجَبُ (٦) من ذلك أن يُعصَى المنعِمُ بِنِعَمِه، هذا عُودُ شجرِ الكَرْم يكونُ يابسًا طولَ الشتاء، ثم إذا جاء الرَّبيعُ دَبَّ فيه الماءُ واخضرّ، ثم يُخرِج الحِصْرِمَ فينتفعُ الناسُ به حامِضًا، ويتناولون منه طبخًا واعتصارًا، ثم ينقلِبُ حلوًا فينتفع الناس به حُلوًا رطْبًا ويابسًا، ويستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طولَ العام، وما يأتدِمُون بحمْضه وهو نِعْمَ الإِدام. فهذه التنقُّلاتُ (٧) توجِبُ للعاقل الدَّهْشَ والتعجُّبَ مِن صُنع صانعه وقدرة خالقه، فينبغي له أن يُفرِّغ عقلَه للتفَكُّر في هذه النِّعَم والشكر عليها. وأمَّا


(١) في آ، ش: "على قصب".
(٢) في آ، ع: "الكون"، وفي ش: "الملكوت".
(٣) في ب، ط: "الطيور"، وكلاهما جائز.
(٤) الهَزَار: طائر حسن الصوت، فارسي معرب. ودرَّس: كرر وأعاد.
(٥) سورة العنكبوت الآية ١٩.
(٦) في ش، ع: "وأعجب من ذلك مَن تراكم عليه الجهل بظلمته، فعصى المنعم بنعمه".
(٧) التنقُّلات: هو ما يُتنقَّل به على الشراب من فواكه وكوامخ وغيرها، وما يُتفكَّه به من جوز ولوز وبندق ونحوها.

<<  <   >  >>