للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إِسناده مقال. والموقوفُ أشبَهُ. وقد قيل: إنَّه (١) إِنَّما مُنع من التوبة حينئذٍ؛ لأنه إذا انقطعَتْ معرفتُه وَذَهِلَ عقلُه، لم يتصوَّر منه نَدَمٌ ولا عَزْمٌ؛ فإنَّ النَّدَمَ والعَزْمَ إِنَّما يصِحُّ مع حضور العَقْلِ، وهذا ملازم لمعاينة الملائكة، كما دَلَّت عليه هذه الأخبار. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عُمَرَ: "ما لم يُغَرْغِر"، يعني إِذا لم تبلُغْ رُوحُه عند خروجها منه إلى حلْقِه، فشبَّه تردُّدَها في حلق المحتضر بما يتغرْغَرُ به الإنسانُ من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإِشارة في القرآن بقوله عزَّ وجلَّ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (٢)، وبقوله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} (٣)، وروى ابنُ أبي الدنيا بإسناده، عن الحسن، قال: أشدّ ما يكون الموت على العبد إِذا بلغت الروح التَّراقي، قال: فعند ذلك يضطرب ويعلو نَفَسُهُ، ثم بَكَى الحسنُ رحمه الله تعالى.

عِشْ ما بَدَا لكَ سالمًا … في ظِل شاهِقةِ القُصُورِ

يُسْعَى عليكَ بما اشتهيْتَ … لَدَى الرَّواحِ وفي البُكُورِ

فإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعَتْ … في ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ

فهناكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا … ما كنْتَ إِلَّا في غُرور

واعلم أن الإنسان ما دام يؤمّلُ (٤) الحياةَ فإنَّه لا يقطَعُ أملَه من الدنيا، وقد لا تسمحُ نفسُه بالإقلاع عن لَذَّاتها وشهواتها من المعاصِي وغيرِها، ويُرجِّيه الشيطان التوبة في آخر عُمُرِه، فإذا تيقَّن الموتَ، وأيسَ مِن الحياة، أفاقَ من سكرته بشهواتِ الدنيا، فندِم حينئذٍ على تفريطه ندامةً يكادُ يقتل نفسه، وطلبَ الرجعة إِلى الدنيا ليتوبَ ويعمَلَ صالحًا، فلا يجابُ إِلى شيءٍ من ذلك، فيجتمع عليه سكرةُ الموت مع حَسْرة الفَوْت. وقد حذَّر الله تعالى عِبادَهُ من ذلك في كتابه؛ ليستعدُّوا للموت قبلَ نزولِه، بالتوبة والعملِ الصالح؛ قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ


(١) في آ: "إنه منع"، وفي ش، ع: "إن ذلك سبب المنع".
(٢) سورة الواقعة الآية ٨٣.
(٣) سورة القيامة الآية ٢٦.
(٤) في ب، ط: "يأمُل".

<<  <   >  >>