للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مضَى الزَّمان في تَوَانٍ وَهَوَى … فاسْتدْرِكي ما قدْ بقي واغْتنمِي

الناس في التَّوبة على أقسامٍ:

فمنهم: من لا يوفَّقُ لتوبةٍ نَصُوحٍ، بل ييسَّر لَهُ عملُ السَّيِّئات من أوَّل عُمُرِه إلى آخره حتى يموت مُصِرًّا عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبَحُ من ذلك من يُسِّر له في أول عمره عملُ الطاعات، ثم خُتِمَ له بعملٍ سيِّئٍ حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح (١): "إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بعَمَل أَهْلِ الجنَّةِ، حتَّى ما يكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراع، فيسبِقُ عليه الكتابُ فيعمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ النَّار فيدخلها".

وفي الحديث الذي خرَّجه أهل السنن: "إنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهلِ الجنَّة سبعين عامًا، ثم يحضُره الموتُ فيجورُ في وصيته فيدخل النار" (٢).

ما أصعَبَ الانتقالَ من البَصَر إلى العَمَى، وأصعَبُ منه الضلالةُ بعدَ الهدى، والمعصيةُ بعد التقى. كم من وجوهٍ خاشعةٍ وُقِّعَ على قصصِ أعمالِها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} (٣). كم مَن شارَفَ مركَبُهُ ساحِل النَّجاة، فلمَّا هَمَّ أن يَرْتَقي (٤) لعِبَ به مَوْجُ الهَوَى فغرِق. الخلْقُ كلهم تحتَ هذا الخطر. قلوبُ العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء.

قال بعضُهم: ما العجَبُ ممن هلك كيفَ هلك، إنما العجَبُ ممن نجا كيف نجا، وأنشد:


(١) أخرجه البخاري ١١/ ٤٧٧ رقم (٦٥٩٤) في القدر: باب في القدر، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، وفي الأنبياء: باب خلق آدم وذريته، وفي التوحيد: باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ومسلم رقم (٢٦٤٣) في القدر: باب، كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وأبو داود رقم (٤٧٠٨) في السنة: باب في القدر، والترمذي رقم (٢١٣٨) في القدر: باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم.
(٢) أخرجه أحمد في "المسند" ٢/ ٢٧٨ وأبو داود رقم (٢٨٦٧) والترمذي رقم (٢١١٧) وابن ماجه رقم (٢٧٠٤) في الوصايا.
(٣) سورة الغاشية الآية ٣ و ٤. وقد أخرج ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٥٠٢، عن أبي عمران الجوني، قال: مَرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، قال: فناداه: يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}، فذاك الذي أبكاني.
(٤) في ب، ط: "يَرْقَى".

<<  <   >  >>