للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الليلُ مَنْهَلٌ يَرِدُه أهلُ الإرادة كلُّهم، ويختلفون فيما يَرِدُون ويُريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (١)، فالمحِبُّ يتنعَّمُ بمناجاةِ محبوِبه، والخائفُ يتضرَّعُ لطلبِ العفوِ ويبكي على ذنوبِه، والراجي يُلحُّ في سؤالِ مَطلوِبه، والغافلُ المسكينُ أحسنَ اللهُ عَزاءَه في حرمانِه وفواتِ نصيبه. قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "لا تكُنْ مِثلَ فلانٍ، كانَ يقومُ اللَّيلَ فتَرَكَ قيامَ الليلِ" (٢).

مرِضَتْ رابعةُ (٣) مرَّةً فصارت تصلِّي وِرْدَها بالنَّهار فعوفيَتْ، وقد أَلِفَتْ ذلك وانقطَعَ عنها قيامُ اللَّيلِ، فرأتْ ذاتَ ليلةٍ في نومِها كأنَّها أُدخِلَتْ إلى روضةٍ خضراءَ عظيمةٍ، وفُتِحَ لها فيها بابُ دارٍ، فسَطَعَ منها نورٌ حتَّى كادَ يَخْطَفُ بصَرَها، فخرَجَ منها وُصَفَاءُ كأنَّ وجوهَهُمُ اللؤلؤ، بأيديهم مجامِرُ، فقالت لهم امرأةٌ كانت مع رابعَةَ: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ فلانًا قُتِلَ شهيدًا في البحر، فنُجَمِّرُهُ، فقالتْ لهم: أفلا تجمِّرُونَ هذه المرأةَ؟ تعني رابعةَ، فنظَرُوا إليها وقالوا: قد كان لها حظٌّ في ذلك فتركَتْهُ، فالتفتَتْ تلك المرأةُ إلى رابعةَ وأنشدَتْ:

صَلاتُكِ نورٌ والعِبادُ رُقُودُ … ونومُكِ ضدٌّ للصَّلاةِ عَنِيدُ

وكان بعضُ العلماء يقومُ السَّحَرَ، فنامَ عن ذلك لياليَ، فرأى في منامِه رجلين وقفا عليه وقال أحدُهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسْحارِ، فتركَ ذلك. يا من كان له قلبٌ فانقلب، يا من كان له وقتٌ مع اللهِ فذهَب؛ قيامُ السَّحَرِ يستوحِشُ لكَ، صيامُ النَّهارِ يُسائِلُ عنكَ، ليالي الوِصالِ تُعاتِبكَ على الهَجْرِ.

تَغَيَّرْتُمُ عنَّا بصُحْبَةِ غَيْرِنا … وأظهرتُم الهِجْرانَ مَا هكذا كُنَّا


(١) سورة البقرة الآية ٦٠.
(٢) رواه البخاري رقم (١١٥٢) في التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل؛ ومسلم رقم (١١٥٩) في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر؛ والنسائي ٣/ ٢٥٣ في قيام الليل، باب ذم من ترك قيام الليل، وأحمد في مسنده ٢/ ١٧٠؛ كلهم من طريق الأوزاعي.
(٣) هي رابعة العدوية، مولاة آل عتيك البصرية، الزاهدة، العابدة، من أهل البصرة، لها أخبار في العبادة والنسك. توفيت سنة ١٣٥ هـ، وقيل غير ذلك. قال ابن خلكان: وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه، على رأس جبل يسمى الطور. (وفيات الأعيان ٣/ ٢١٥، صفة الصفوة ٤/ ٢٧، سير أعلام النبلاء ٨/ ٢١٥).

<<  <   >  >>