وحكى «٣٤٦» أن رجلا من الرملة تظلّم إلى المهتدي من عاملها فأمر بإنصافه وكتب له كتاب إليه فأخذه المهتدي ووقّع فيه أسطرا بخطه وختمه بيده وسلّمه إلى الرجل وهو يدعو له. ورأى الرجل في ذلك المجلس أشياء من هذا الفن وشاهد من رحمة المهتدي وبرّه بالرعية وتولية أمورهم بنفسه ما لم ير مثله فاستخفّه الطرب لذلك حتى سقط مغشيّا عليه فنهض المهتدي يعاينه بنفسه فلما أفاق قال له: ما شأنك؟ أبقيت لك حاجة؟ قال: لا والله ولكنى ما رجوت أن أعيش حتى أرى هذا العدل. قال له: كم لزمك منذ خرجت من بلدك؟ قال: أنفقت عشرين دينارا قال المهتدي: إنا للَّه! كان الواجب علينا أن ننصفك وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكلفة وإذ لم يتّفق ذلك فهذه خمسون دينار من بيت مال المسلمين فإنّي لا أملك مالا فخذها لنفقتك قادما وراجعا واجعلنا في حل من تعبك وتأخّر حقك. قال: فبكى الرجل حتى غشي عليه ثانيا وأجهش بعضهم بالبكاء [٦٠ ب] وبهت البعض فقال واحد من الجماعة:
يا أمير المؤمنين أنت والله كما قال الأعشى:
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر «٣٤٧»
فقال المهتدي: أما أنت فأحسن الله جزاءك، وأما أنا فما رويت هذا الشعر ولا سمعت به ولكنى أذكر قول الله عز وجل:«ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين» فما بقي في المجلس إلا من استغرق في الدعاء والبكاء جهده ودعا له بطول العمر ونفاذ الأمر.
وللبحترى فيه قصيدة «٣٤٨» بديعة يصف فيها زهده وسيرته ولبسه للصوف وأوّلها: