للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والثالث: أن يستوي عند العبد حامده وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب المدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبة الحق، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود : «اليقين ألَّا ترضي الناس بسخط الله» (١).

وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.

وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا، وكلها ترجع إلى ما تقدم، كقول الحسن : «الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هو أفضل مني» (٢).

وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها.

ولهذا يقال: الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس، فهو الزاهد حقًّا.

وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدنيا ألّا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها (٣)، قال ابن السماك: (هذا هو الزاهد المُبرَّز في زهده) (٤).


(١) تقدم تخريجه.
(٢) ذكره البيهقي في شعب الإيمان برقم (٧٨٩٩)، وأبو نعيم في الحلية (٦/ ٣١٤).
(٣) ذكره المزي عنه في تهذيب الكمال (٣١/ ١٧٢).
(٤) أخرجه ابن الأعرابي في الزهد وصفة الزاهدين برقم (٣٤)، وابن أبي الدنيا في الزهد (ص ٥٠١)، ولفظ ابن أبي الدنيا: (عن إبراهيم بن رجاء، قال: سمعت ابن السماك يقول: الناس ثلاثة: زاهد، وصابر، وراغب، فأما الزاهد: فأصبح قد خرجت الأفراح والأحزان من صدره عن اتباع هذا الغرور، فهو لا يفرح بشيء من الدنيا أتاه، ولا يحزن على شيء من الدنيا فاته، لا يبالي على عسر أصبح أم على يسر، فهذا المبرز في زهده، وأما الصابر: فرجل يشتهي الدنيا بقلبه، ويتمناها بنفسه، فإذا ظفر بشيء منها ألجم نفسه عنها، كراهة شتاتها وسوء عاقبتها، فلو تطلع على ما في نفسه عجبت من نزاهته وعفته، أما الراغب: فلا يبالي من أين أتته الدنيا، ولا يبالي دنس فيها عرضه، أو وضع فيه حسبه، أو جرح دينه، فهؤلاء في غمرة يضطربون، وهؤلاء أنتن من أن يذكروا).

<<  <   >  >>