للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان المنصور في صدر امره عند ما بنى بغداد أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة. وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه. فقيل له عن جيورجيس بن بختيشوع [١] الجنديسابوريّ انه أفضل الأطباء. فتقدم بإحضاره. فأنفذه العامل بجنديسابور بعد ما أكرمه. فخرج ووصّى ولده بختيشوع بالبيمارستان واستصحب معه تلميذه عيسى ابن شهلاثا ولما وصل الى بغداد أمر المنصور بإحضاره. فلما وصل الى الحضرة دعا له بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره وأمره بالجلوس وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون. وخبّره بمرضه. فقال له جيورجيس: انا ادبّرك بمشيّة الله وعونه. فأمر له في الوقت بخلعة جليلة وتقدم الى الربيع بإنزاله في أجمل موضع من دوره وإكرامه كما يكرم اخص الأهل. ولم يزل جيورجيس يتلطف له في تدبيره حتى برى من مرضه وفرح به فرحا شديدا. وقال له يوما: من يخدمك ههنا. قال: تلامذتي.

فقال له الخليفة: سمعت انه ليست لك امرأة. فقال: لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من موضعها. وانصرف من الحضرة ومضى الى البيعة. فأمر المنصور خادمه سالما ان يحمل من الجواري الروميّات الحسان ثلاثا الى جيورجيس مع ثلثة آلاف دينار.

ففعل ذلك. فلما انصرف جيورجيس الى منزله عرّفه عيسى بن شهلاثا تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فأنكر أمرهن وقال لعيسى: يا تلميذ الشيطان لم ادخلت هؤلاء الى منزلي. أردت ان تنجسني. امض وردّهنّ على أصحابهنّ. فمضى الى دار الخليفة وردهنّ على الخادم. فلما اتصل الخبر الى المنصور أحضره وقال له: لم رددت الجواري.

قال: لا يجوز لنا معشر النصارى ان نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها. فحسن موقع هذا من الخليفة وزاد موضعه عنده. وهذا ثمرة العفة.

ولما كان في سنة اثنتين وخمسين ومائة مرض جيورجيس مرضا صعبا. ولما اشتد مرضه أمر المنصور بحمله الى دار العامة وخرج ماشيا اليه وتعرّف خبره. فخبّره وقال له: ان رأى امير المؤمنين ان يأذن لي في الانصراف الى بلدي لأنظر اهلي وولدي وان متّ قبرت مع آبائي. فقال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وانا اضمن لك الجنة. قال جيورجيس قد رضيت حيث آبائي في الجنة او في النار. فضحك المنصور من قوله ثم قال: انني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض التي كانت تعتادني. فقال جيورجيس: انا اخلف بين يدي امير المؤمنين عيسى تلميذي فهو ماهر. فأمر لجيورجيس بعشرة آلاف دينار واذن له بالانصراف وانفذ معه خادما وقال: ان مات في الطريق فاحمله


[١-) ] يريد جيورجيس بن جبريل بن بختيشوع.