كانت في أتم الاستعداد له وأن التدخل العسكري جاء سريعاً للغاية حتى في القرى والمداشر النائية. وعلى سبيل المثال، فإن المسيرة التي انطلقت في الأوريسية بالقرب من مدينة سطيف على الساعة الثانية والنصف من زوال اليوم الثامن من شهر مايو قد اصطدمت بفرق من الجيش الفرنسي على الساعة الرابعة أي فقط بعد ساعة ونصف من انطلاقها وهو أمر مستحيل في الظروف العادية. وفي اليوم التاسع من شهر مايو وفي مدينة لافاييت (بوقاعة حالياً) وصل الأجناد إلى مكان المسيرة في ظرف ساعة فقط (٩١).
على هذا الأساس، وتنفيذاً للتعليمات الصادرة عن عامل ولاية قسنطينة ومساعديه في كل من سطيف وقالمة، أقدم ضباط الشرطة في هاتين المدينتين الأخيرتين على استفزاز المتظاهرين من أجل إيجاد الظروف التي تسمح بإطلاق النار؛ وفي المدينتين كانت تلك الظروف هي محاولة انتزاع العلم الجزائري من أيدي المناضلين الذين رفضوا الامتثال لأوامر ممثلي السلطة الاستعمارية الذين لم يترددوا في اللجوء إلى أسلحتهم (٩٢). وبسقوط الضحايا الأوائل أخذت المسيرات الشعبية السلمية طابعاً آخر جعلها تتحول بالتدريج إلى حركة ثورية ظلت متواصلة طيلة ماتبقى من شهر مايو سنة ١٩٤٥.
وفيما يخص الاستفزازات البوليسية هناك شهود عيان (٩٣) يذكرون أن المسيرة في مدينة سطيف انطلقت هادئة من ناحية المسجد الجديد، وظلت كذلك حتى قطعت حوالي ألف متر ووصلت إلى مقهى فرنسا على الشارع الرئيسي حيث كان يجلس المفتش لافون Laffont مرتدياً الزي المدني. إن هذا الأخير غادر مكانه بسرعة وراح يخرق صفوف المتظاهرين محاولاً افتكاك اللافتات المنادية بحياة الحلفاء وسقوط الامبريالية من حامليها. وأمام رفض المناضلين ومقاومتهم الشديدة أطلق الرصاص عليهم فكان ذلك إيذاناً ببدء المجزرة على أيدي أفراد الشرطة الذين كانوا يؤطرون المسيرة.
وإن وزير الداخلية الفرنسي نفسه قد أكد أن جميع التقارير التي وصلته لم تتضمن "أي دليل على أن القادة الوطنيين كانوا يريدون إشعال فتيل الثورة الشاملة يوم ٨/ ٥/١٩٤٥. بل إنها (أي التقارير) شكلت لديه قناعة مطلقة بأنهم فقط كانوا يهدفون إلى استظهار قوتهم وإخراج مناضليهم قصد عدهم ودعم انضباطهم ونشر قوتهم أمام السلطات الفرنسية وحكومات الحلفاء"(٩٤).