للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ب - أَنَّ مُدَاوِمَ الْخَيْرِ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ، وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا مَا كَمَنْ لَازَمَ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ انْقَطَعَ، وَعند مسلم: (وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى الله مَا دووم عَلَيْهِ وَإِنْ قل).

(إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) [البخاري]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ:

١ - فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، ومنهم عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ و أَبُو هُرَيْرَةَ والغزالي.

٢ - وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْكَافِرِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ أَصْلًا.

٣ - محمول على أنه يعذب إِذَا أَوْصَى أَهْلَهُ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَآخَرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ونَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْجُمْهُورِ.

٤ - هو وعيد لِمَنْ أَهْمَلَ نَهْيَ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَطَائِفَةٍ. ومَحَلَّهُ إِذَا عَلِمَ الْمَرْءُ بِمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّوْحِ، وَعَرَفَ أَنَّ أَهْلَهُ مِنْ شَأْنِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَا زَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِيهِ، فَإِذَا عُذِّبَ عَلَى ذَلِكَ عذب بِفعل نَفْسِهِ، لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِهِ.

٥ - مَعْنَى: (يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ) أَيْ بِنَظِيرِ مَا يَبْكِيهِ أَهْلُهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُعَدِّدُونَ بهَا عَلَيْهِ غَالِبًا تَكُونُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ، فَهُمْ يَمْدَحُونَهُ بِهَا وَهُوَ يُعَذَّبُ بِصَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ مَا يَمْدَحُونَهُ بِهِ، وَهَذَا اخْتِيَار ابن حزم وَطَائِفَة، فهم يَنْدُبُونَهُ برياسته الَّتِي جَار فِيهَا، وشجاعته الَّتِي صرفها فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَجُودِهِ الَّذِي لَمْ يَضَعْهُ فِي الْحَقِّ، فَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْمَفَاخِرِ، وَهُوَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ.

٦ - مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِمَا يَنْدُبُهُ أَهْلُهُ بِهِ، كَمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: (الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَا عضداه وَا ناصراه وَا كاسياه جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا؟ أَنْتَ ناصرها؟ أَنْت كاسيها؟)

٧ - مَعْنَى التَّعْذِيبِ: تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ وَغَيْرِهَا.

٨ - وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ: فَيُنْزَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: مَنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ النَّوْحَ، فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، أَوْ بَالَغَ فَأَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ عُذِّبَ بِصُنْعِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا فَنُدِبَ بِأَفْعَالِهِ الْجَائِرَةِ عُذِّبَ بِمَا نُدِبَ بِهِ، وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ فَأَهْمَلَ نَهْيَهُمْ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ عُذِّبَ بِالتَّوْبِيخِ كَيْفَ أَهْمَلَ النَّهْيَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحْتَاطَ فَنَهَى أَهْلَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ خَالَفُوهُ

<<  <   >  >>