للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المطلب السابع: محنة الإمام البخاري في [مسألة اللفظ]]

عاش البخاري -رحمه الله- في الفترة التي تسلط فيها الجهمية والمعتزلة على خلفاء بني العباس ابتداءً من المأمون ثم المعتصم فالواثق فزينوا لهم القول بخلق القرآن وامتحن فيها العلماء.

وليس بخاف ما حصل للإمام أحمد من ضرب وحبس بل وصل الأمر إلى القتل كما حصل لأحمد بن نصر الخز اعي (١)، الذي قتله الواثق بيده. (٢)

وكان البخاري وهو من تلاميذ الإمام أحمد قد امتحن ولكن ليس بقضية خلق القرآن بل في مسألة تفرعت عنها أول من تكلم بها الحسين الكرابيسي (٣)، وهي قوله (لفظي بالقرآن مخلوق) ولمّا سئل الإمام أحمد عن ذلك، قال: هذا شرٌ من قول الجهمية من زعم هذا فقد زعم أن جبريل تكلم بمخلوق وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق. (٤)

ولمّا دخل الإمام البخاري نيسابور كان فيها إماماً عظيماً من أئمة أهل السنة هو الإمام محمد بن يحيى الذهلي (٥) وكان من ثقات المحدثين أثنى عليه الأئمة وعدلوه وقد أخذ عنه البخاري وروى له في صحيحه وزامله في الطلب.

فلما استقبله الأهالي الاستقبال العظيم قال هذا الإمام المتبوع _ أعني الذهلي-: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه فظهر الخلل في مجالس الذهلي.

وقال مرة: لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه وشمت بنا كل ناصبي ورافضي وجهمي ومرجئي بخرا سان.

فازدحم الناس على البخاري حتى امتلأت السطوح فقام إليه رجل وسأله عن اللفظ في القرآن فأعرض عنه البخاري مرتين ثم سأله فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا، قال: فوقع بين الناس اختلاف - مع زحمة المكان- فقال بعضهم: قال

لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم لم يقل فوقع بينهم خلاف. (٦)

وفي رواية أنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة. (٧)

فقال الذهلي: من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلاّ من كان على مذهبه. (٨) حينئذ وقعت الوحشة وانقطع الناس عن مجلس البخاري إلاّ مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة (٩) فإنهما فضلا مجلس البخاري على مجلس الذهلي.

ثم إن الإمام الذهلي أطلق: أن من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، يعني أنه لا يجيز له الرواية عنه خاصة أنه يوحي إلى أن من ذهب إلى البخاري فلا يروي عني.


(١) أحمد بن نصر الخزاعي، من أشراف بغداد، قتله الواثق ونُصِبَ رأسه في بغداد ست سنوات، وكان يخالف القول بخلق القرآن، ت ٢٣١ هـ الأعلام (١/ ٢٦٤).
(٢) سير أعلام النبلاء (١١/ ١٦٧).
(٣) أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي، كان متكلماً عارفاً بالحديث [والكرابيس: هي الثياب الغليظة] كان يبيعها، توفي ٢٤٨ هـ، الأعلام (٢/ ٢٤٤).
(٤) المصدر السابق ١١/ ٢٩٠.
(٥) محمد بن يحيى بن عبدالله بن خالد الذهلي أبو عبدالله النيسابوري، الحافظ، أحد الأعلام الكبار قال أبوحاتم إمام زمانه ت ٢٥٨ هـ الخلاصة صـ ٣٦٨.
(٦) هدي الساري ٤٩٠.
(٧) طبقات الشافعية (٢/ ٢٢٨).
(٨) هدي الساري (٤٩٠، ٤٩١).
(٩) أحمد بن سلمة البزَّاز حافظ من علماء الحديث، له صحيحٌ في الحديث وهو حجة، توفي (٢٨٦ هـ)، الأعلام (١/ ١٣٢).

<<  <   >  >>