فأولى الأمور بمن نصح نفسه وأُلْهِمَ رُشْدَه معرفةُ السنن التي هي البيان لمجمل القرآن، بها يُوصِل إلى مراد الله تعالى من عباده فيما تعبّدهم به من شرائع دينه، الذي به الابتلاء وعليه الجزاء، في دار الخلود والبقاء، التي إليها يسعى الألبّاء العقلاء، والعلماء الحكماء، فَمَنْ منَّ الله -عَزَّ وجَلَّ- عليه بحفظ السنن والقرآن، فقد جعل بيده لواء الإيمان، وإن فَقُهَ وَفَهِمَ واستعملَ ما عَلِمَ دُعِيَ في ملكوت السموات عظيمًا، ونال فضلًا جسيمًا، وعلى كل حال فالعلم نجاة من الضلال، وقائد إلى الله الكبير المتعال.
أما بعد:
فإنّا لَمّا ذكرنا في كتاب "التمهيد" من معاني السنن ووجوهها واتساع مذاهب العلماء فيها، وامتدّ بذلك الشرح وطال عليه الاستشهاد، وعلِمْنا أن أكثر الناس من قصرت همته، وضعفت عنايته، ودعاه إلى القناعة بأقلّ ذلك طلبُ راحته، أو ضيق معيشته رأينا أن نجرّد تلك السنن التي جعلناها أصل ذلك الكتاب، وهي السنن الثابتة بنقل الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس -رضي الله عنه-، لاختياره لها، وانتقاده إياها، واجتهاده فيها، واعتماده عليها في موطئه الذي لا مِثْلَ له ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله تعالى -عَزَّ وجَلَّ-.
وقد ذكرنا في صدر كتاب "التمهيد"(١) من فضائله وتقدُّمِه في صحّة النقل والتوقِّي فيه، وترْكِ الرّواية عمن لا تُرْضى حالُهُ،