للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم، والملك المقيم، ولا بدّ من مطعم، ومشرب، ومسكن، ومنكح، وملبس، فمن المطاعم إبقاء البدن، ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والخُلق، ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال، ووجه شرفه، وأنه من حيث ضرورة البدن إلى هذه الأسباب لتصح العبادة.
فمن عرف فائدة ذلك وغايته ومقصده؛ استعمله لتلك الغاية، ملتفتاً إليها غير ناسٍ لها، فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له من الغرض محموداً في حقّه، فإذاً المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتّخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، وهي المقاصد الصادّة عن سعادة الآخرة، ويسدّ سبيل العلم والعمل، فهو إذ ذاك محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصود المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصود المذموم، فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه، وهو لا يشعر.
ولمّا كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله، وكان المال مسهّلاً لها وآلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية، فاستعاذ بعض الزهاد من شره.
واعلم أن المال مثل حيّة فيها سمٌ وترياق، ففوائدها ترياقها، وغوائلها سمومها، فمن عرف غوائلها وفوائدها أمكنه أن يحترز من شرّها، ويستدرّ منها خيرها.
أمّا الفوائد فهي تنقسم إلى: دنيوية ودينية، أما الدنيوية؛ فلا حاجة في ذكرها، فإن معرفتها مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها، وأما الدينية فنحصر جميعها في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على العبادة.
أمّا العبادة كالاستعانة على الحج، والصدقة؛ فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمّهات القربات، والفقير محرومٌ عن فضلهما.
وأما فيما يقويه على العبادة، وذلك هو المطعم والملبس والمنكح، فإنّ هذه الضرورات إذا لم تتيسّر كان القلب منصرفاً إلى تدبيرها، فلا يتفرّغ للدّين، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، وأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، فلا يدخل في هذه التنعّم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.
النوع الثاني: ما تصرفه إلى الناس من صدقة واستخدام ومرؤة ووقاية العرض.
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها، وأنها لتطفئ غضب الرب، وفضائلها معروفة فلا نطوِّل بذكرها.
وأما المرؤة فنعني بها: صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة، وهدية، وإعانة، وما يجري مجراه، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما تسلم إلى المحتاج إلا أن هذا -أيضاً- من الفوائد =

<<  <   >  >>