للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء، وبه يكتسب صفة السّخاء، ويلتحق بزمرة الأسخياء، فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف، ويسلك سبيل المرؤة، وهذا -أيضاً- مما يعظم الثواب فيه، فقد وردت أخبار كثيرة فيها الحث على الهدايا، والضيافات، وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها، وبيّنتُ قسماً حسناً منها في كتابي «المرؤة وخوارمها» .
وأمّا وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب السفهاء، ودفع شرّهم، وقطع ألسنتهم، وهذا -أيضاً- مع فائدته في العاجلة فهو من الحظوظ الدينية- أيضاً-.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما وقي به المرء عرضه؛ فهو له صدقة» ، فكيف ولا؟ وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة، واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكاره والانتقام على مجاوزة الحدّ في الشرع، وبيّنت هذا في مقدمة كتابي «شعر خالف الشرع» يسر الله إتمامه بمنه وكرمه.
وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاّها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذّر عليه سلوك سبيل الآخرة، بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له افتقر إلى أن يتولىّ بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام، وطبخه، وكنسه البيت، حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكلّ ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل غرضك، فأنت مغبون إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والفكر والذكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك، فتضييع الوقت في غيره خسران.
واعلم أن الزائد من المال الذي يفضل عما يحتاج إليه من الكفاف يجرّ إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يقدر ومتى كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليه انبعثت، والمال نوع من القدرة يحرّك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك، وإن صبر وقع في شدّة، إذ الصبر مع القدرة أشد و (فتنة السراء أشد من فتنة الضراء) .
النوع الثالث: أنه يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أقلّ الدرجات فمتى يقدر صاحب المال أن يتناول خبز الشعير، ويلبس الثوب الخشن، ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان -عليه السلام- في ملكه، وأحسن أحواله أن يترك التنعّم بالدنيا لما يعلم من سرعة انقضائها لئلا يمرن عليه نفسه، فيصير التنعّم مألوفاً عنده، ومحبوباً إليه لا يصبر عنه، ويجرّه البعض منه إلى البعض، وإذا اشتد أنسه به ربّما لا يقدر على التوصّل إليه بالكسب الحلال، فيقتحم الشبهات، ويخوض في المراءاة، والمداهنة، والكذب، والنفاق، وسائر الأخلاق المردية، لينتظم له أمر دنياه، ويتيسّر له تنعُمُه، فإنَّ من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بدّ أن ينافقهم ويعصي الله في طلب =

<<  <   >  >>