ولذلك قال عيسى -عليه السلام-: «في المال ثلاث خصال: أن يأخذه من غير حله. فقيل: إن أخذه من حله؟ فقال: يضعه في غير حقه. فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله -تعالى-» . وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخّها وسرّها ذكر الله -تعالى- والفكر في جلاله ومصنوعاته، ويحتاج ذلك إلى قلب فارغ، وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وخصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء في التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم، وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل، وتضييعه للمال، وكذلك صاحب المواشي، وهكذا سائر أصناف الأموال، وأبعدها عن كثرة الاشتغال النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه، وفي كيفية حفظه، وفي الخوف ممن يعثر عليه، وفي دفع أطماع الناس عنه، وأودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها، والّذي معه قوت يومه في سلامة عن جميع ذلك، وما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والغمّ والهمّ، والتعب في دفع الحساد، وتجشّم المصاعب في حفظ الأموال وكسبها، فإذا ترياق الأموال أخذ الضرورة من ذلك مما بيّناه فيما تقدّم ما لا غنى عنه لإصلاح البدن، بتوفيره على العبادة، وصرف الزائد إلى الجيران في الخيرات من الصدقات وغيره، وماعداه آفات. قال أبو عبيدة: يتضح مما مضى أنّ خيرية المال بثمرته، وأنه يراد لغيره ولا يراد لعينه. وقد كشف عن ذلك ابن الجوزي في كلام نقله عنه ابن مفلح الحنبلي في كتابه «الآداب الشرعية» (٣/ ٤٦٩-٤٧٠) ، قال: «قال ابن الجوزي: وأما التفضيل بين الغني والفقير؛ فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لا بد من تفصيل فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غني شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غني حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص، فإن كان الغني متمتعاً بالمال في المباحات فالفقير القنوع أفضل منه. =