فنهض الموفَّقون وركبوا السفينة، ورغبوا عن خوض البحر، لما علموا أنه لا يُقطع خوضاً ولا سباحة. وأما الحمقاء، فاستصعبوا عمل السفينة وآلاتها والركوب فيها، وقالوا: نخوض البحر، فإذا عجزنا قطعناه سباحة -وهم أهل الدنيا- فخاضوه، فلما عجزوا عن الخوض أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق. ونجا أصحاب السفينة، كما نجوا مع نوح -عليه السلام- وغرق أهل الأرض. ومثالها: مثال إناء مملوء عسلاً، رآه الذباب، فأقبل نحوه، فبعضه قعد على حافة الإناء، وجعل يتناول من العسل، حتى أخذ حاجته ثم طار. وبعضه حمله الشَّرَه فرمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه، فلم يدعه انغماسه فيه أن يتهنَّأ به إلاَّ قليلاً، حتى هلك في وسطه. ومثل الدنيا مثل حبّ نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحَب حَبٌّ ليس في فخاخ، فجاءت الطير، فمنها من قنع بالجوانب ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى، ومنها من حمله الشَّره على اقتحام معظم الحب، فما استتم اللقط إلاَّ وهو يصيح من أخذه الفخ له» . وقال -رحمه الله تعالى-: «وقد خلق الله الغنى والفقر ليبتلي بهما عباده أيهم أحسن عملاً، وجعلهما سبباً للطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: ٣٥] » . وقال بعد كلام: « ... فالذهب، والفضة، والمساكن، والملابس، والمراكب، والزروع، والثمار، والحيوان، والنساء، والبنون، وغير ذلك، كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أطوع له وأرضى، فهو الأحسن عملاً. وهذا هو الحق الذي خلق به وله السماوات والأرض وما بينهما، وغايته الثواب والعقاب، وفواته وتعطيله هو العبث الذي نزَّه الله نفسه عنه، وأخبر أنه يتعالى عنه. فقال عزَّ من قائل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: ١١٥، ١١٦] . والمقصود أنه -سبحانه- جعل الغنى والفقر ابتلاء وامتحاناً للشكر والصبر، والصدق والكذب، والإخلاص والشرك. قال -تعالى-: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة: ٤٨] ، وقال -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: ١٥] . =