فإن قيل: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمس مئة عام» . قيل: هذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة وإن سبقوهم بالدخول؛ فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع، كسبق الفقير الخفيف في المضائق وغيرها، وتأخر صاحب الأحمال بعده. فإن قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردَّها وقال: «ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ... » . قيل: احتجّ بحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة من الطائفتين. والتحقيق أن الله -سبحانه وتعالى- جمع له بين كليهما على أتم الوجوه. وكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين. فحصل له الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه. فمن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك؛ فكان أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر» . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل جداً ما نصه: «وأي غنيّ أعظمُ مِن غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض، وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهباً، وخُيِّر بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً. ومع هذا فجُبيت إليه أموال جزيرة العرب واليمن، فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمَّل عيال المسلمين ودَيْنهم. فإذا احتجَّ الغني الشاكر بحاله - صلى الله عليه وسلم -، لم يمكنه ذلك إلا بعد أن يفعل فعله. كما أن الفقير الصابر إذا احتجَّ بحاله - صلى الله عليه وسلم -، لم يمكنه ذلك إلاَّ بعد أن يصبر صبره، ويترك الدنيا اختياراً لا اضطراراً. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفَّى كل مرتبة من مرتبتي الفقر والغنى حقها وعبوديتها. وأيضاً فإن الله -سبحانه- أغنى به الفقراء، فما نالت أمَّته الغنى إلا به. وأغنى الناس من صار غيره به غنياً» . وتكلَّم -أيضاً- على الآفات التي تعترض كلاً من (الفقير) و (الغني) ، فقال: =