وفي مزدلفة حيث المشعر الحرام وصلاة الجمع، والتقاط الحصى، إقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وفي منى عند الجمرات يستشعر المسلم صورة صادقة من صور الصراع بين الحق والباطل الذي لا ينفك بين البشر حتى يقضي الله بين العباد، والذي يرمز لجانب الشرِّ فيه الشيطان، ولجانب الخير فيه المسلم الذي يُصرّ على توطين نفسه لنبذ دواعي الفتنة من خلال رمي الشاخص بما يعمق عقيدة التولي عن دعوات إبليس المتلاحقة، ومن خلال الإقتداء بمن هو أهلٌ لأن يقتدى به، إنه إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن، ومحلُّ إجماع أبناء المجتمعات الإنسانية في كل زمان ومكان؛ حيث عارض الشيطان، وخالف أوامره، وانتصر عليه ورماه بالحصباء امتثالاً لأمر ربه.
وفي النَّحر عَوْد على أروع الأمثلة التي وضعت فيها العبودية لله تعالى موضع التنفيذ يوم لم يتردّد إبراهيم في الإقدام على ما أوحاه الله إليه من ذبح ولده الوحيد إسماعيل آنذاك (١)، في أرض غربة وتقشف وحرٍّ شديد، تسليماً لأمر ربه، فإذا بالولد البارِّ يجدّ السير على درب أبيه، يقدم الروح متبسماً في سبيل رضوان ربه، وهو يقول:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: ١٠٢].
ومن تجليات الركن الخامس أنه يحقق في أمتنا ما عاشت البشرية أزمنة طويلة تنادي
(١) ليس في هذه القصة دعوة لذبح الأولاد، أو تبريرٌ لذلك، فهذا الفهم الساذج لم يقل به أحد من أمَّة الإسلام سواء في عهد نزول الآية المذكورة أو زمن حدوث القصة قبل أربعة آلاف عام؛ لوجود خصوصيتين في هذه الحكاية النبوية: الأولى أنّ الوالد نبي، والثانية أنّ الابن نبي، فالدعوة للذبح جاءت من طريق الوحي الذي لا سبيل لأحد إليه بعد انقطاعه مع وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك نهاية المشهد بالفداء بذبح عظيم طريقها الوحي أيضاً، والمقصود من أحداث القصة أن يتعلم المسلم أن طاعة ربه، والاستسلام لأوامره هي السمة الملازمة لكل لحظة من سيرة حياته، وأنّ لنا في خليل الرحمن إبراهيم أسوة حسنة الذي انقاد عن طواعية لأمر الذبح، وفي نبي الله إسماعيل الذي انقاد مثله عن طواعية؛ لأن الآمر اللهُ، أمّا الحكمة من أمر ربنا سبحانه وتعالى فهي أن يقدم هذا الأنموذج للبشرية، لتعلم كيف جاء الدين لحفظ الروح والنفس.