تستحضر صورة رسل الله وأنبيائه قاطبة، وألسنتهم تلهج حول البيت العتيق بأدعية شفافة رقيقة، فتفوح من هذا السَّرد الذي يشبه آلة العرض السينمائي ذكرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدخل مكة من ثنيَّة كَدَاء، ويغتسل من بئر ذي طُوى، ويطوف بالبيت في تواضع لله، وخشوع بين يديه وبكاء، وفي إظهار للقوة أمام أعداء الله مهرولاً في الأشواط الثلاثة الأول التي بدأها بتقبيل الحجر الأسود، والتي تلت هدم أصنام الشرك المزعومة في ختام رحلة الجهاد فداءً لدين الله؛ ليؤسس مع بداية الطواف بضوابطه الجديدة قيام مجتمع جديد أساسه التوحيد لله، وعنوان وحدته الكعبة المشرفة، وثمرة بنائه مجتمع سعيد رمزه الفضيلة والستر والروابط الإيجابية بلا كَبْتٍ أو سلبيّة.
إنّه المجتمع الذي يقوم فيه الولاء لله تعالى وحده، وليس لآلهة مزيَّفة من أصنام ومادة وشهوات.
وفي المسعى تحضر بقوة ذكرى الأم العظيمة هاجر، يوم استجابت لأمر ربها، ورضيت بالإقامة في وادٍ غير ذي زرع لا ساكن فيه ولا ماء، أو أيَّ شيء من مقوّمات الحياة حتى صارت مثلاً يُحتذى لكل من تسوِّل له نفسه أنّ في طاعة الله ضياعَ الأفراد والمجتمعات، فهاهي أُمنّا، وبسبب يقينها وثقتها بالله تعالى لم تنج من براثن موت مؤكد فحسب، وإنما صارت سيدة هذا الوادي الذي أخذ يعج بجموع السكان والزّوار، وصارت إحدى الخالدات اللائي حُفر اسمهنّ بجلاء في جدار التاريخ، وبالسيرة العطرة التي تشرئب لها أعناق روّاد الخلود في الدنيا.
وفي عرفة حيث وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى في جموع المسلمين خطابه المودِّع الجامع يناشد فيه حاضرهم وأجيالهم أن تحمل الأمانة التي ألقيت على عاتق الأمة في تلك اللحظات المؤثرة من تاريخ الرسول والرسالة.