بالبدايات الأُولى حين خرج النّاس من بطون أُمهاتهم حفاة عراة، وبالمعاد حين يقومون لا أحساب بينهم ولا أنساب، وبالانتقال فيما بين وادي الدنيا والآخرة من نافذة القبر المظلم الصغير، وجميعها صورٌ شاهدة على المساواة بين سائر البشر (١).
ومن تجليات هذا الركن العظيم أنه أعظم تظاهرة اقتصادية في التاريخ البشري، وفي الحياة المعاصرة؛ لأن الملايين من المسلمين يحزمون أمتعتهم كلَّ عام صوب المسجد الحرام لأداء مناسك الحج فرضاً أو نافلة، بشتى وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، مفعّلين بذلك عجلة هذا المرفق الحيوي الهام، حاملين معهم المال إلى بلدة شهدت ولا تزال تدفق عصارات الأمم في شتى الصناعات، وثمرات الكرة الأرضية على كل المستويات، فإذا بأبناء الأقاليم والقارات يتبادلون في هذا اللقاء الحاشد السلع والحاجيات ضمن أضخم عملية تبادل اقتصادي في الدنيا تسهم في تحريك عجلة الاقتصاد العالمي وتفعليه نحو الأرقى، في سبقٍ إسلامي لفكرة التجمعات الاقتصادية الكبرى، ومعارضها الإنتاجية، من خلال إعطاء الحج بعداً اقتصادياً، رُسخ فيه من خلال ربط هذه الفريضة بالاستطاعة المالية التي لا يتم نهوض اقتصاديٌّ ما حال
(١) من العبادات الإسلامية الأخرى ما يحقق بين المسلمين المساواة المنشودة، لكن ليس إلى درجة إذابة الفوارق تماماً بينهم، فالصلاة مثلاً وهي عماد الدين كله، تؤدي جانباً كبيراً من هذا المعنى لكنها لاتبلغه؛ لأن الناس وإن كانوا يقفون بين يدي الله في أوقات لا يختص بها بعضهم دون بعض، وفي أداء يستوون فيه جميعاً، وفي صفوف لا يحظى في مقدمتها أصحاب طبقة دون أخرى، ولا في مساجد يدخلها النخبة، وأخرى من نصيب العامة، وبسجود جماعي يضع فيه المسلم رأسه قريباً من قدمي أخيه، بينما تقع قدماه هو في مقابلة رأس مصلٍّ آخر بالخلف دون النظر إلى رئيس ومرؤوس، وكل هذا من مظاهر المساواة، إلّا أن الصلاة تتيح لشارات السيادة والغنى أن تحضر فيها، وتعكس الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمصلي من خلال الثياب واللباس الذي يصبغ صاحبه بصبغة الفوارق الإقليمية والطبقية؛ لأن اللباس يحكي جوهر لابسه الدنيوي، وبهذا فإن الحج مرتبة متقدمة في ترسيخ معاني التسوية بين البشر.