كما أنه دُفع بالقضية برمتها إلى دائرة الضوء بجعل الحج ركناً من أركان الإسلام، وتسمية إحدى سور القرآن الكريم باسم هذا الركن العظيم ـ سورة الحج ـ والتي ضمّنها البيان الإلهي قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)} [الحج: ٢٨، ٢٩]، وبذلك قطع البيان القرآني دابر الشك أمام من يتردد من الحجاج في المتاجرة والانتفاع الدنيوي المشروع، في هيئة تظهر تعانق النُسك الشرعي مع البناء الحضاري في هذا الدين، وتثبت من جديد أنّ إسلامنا لم يكن يوماً رهبانية حبيسةَ دور العبادة، ولا صوفيةً لا تَفْقَهُ الدنيا، لكنه دائماً دينٌ سماوي لبناء مكتسبات أرضية، ودنيا لا تقطع صلتك بالله، وسماء تؤكد لك بالصوت والصورة اليومية أنّ الذي أبدع الإنسان في أحسن تقويم، وخلق سبع سماوات طباقاً لا ترى في خلقهن تفاوتاً، هو وحده الخبير بما يضمن سعادة هذا الكائن البشري الذي انطوى فيه العالم الأكبر، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؟ [الملك: ١٤]{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؟ [التين: ٨].
فأين من ينظر بموضوعية مجرّدة عن مؤثرات الأهواء والمصالح الضيّقة؟ ! .
الإسلام والدنيا في ميزان شريعتنا لا مقاطعة بينهما ولا هجران، وإنما تعاون على تذليل كل شيء لنيل رضوان الواحد الأحد المنّان، ولذلك وطدت الآية السابقة في كلماتها جانباً اقتصادياً آخر بتقديم كفارات على بعض مخالفات الحجاج، على هيئة ذبائح وصدقات لا يجوز أن تدفع لغير فقراء الحرم، وبهذا عالجت الحكمة الإلهية قدر الله على أهل مكة في واديهم الذي لا يخرج زرعاً، بالوصفة الاقتصادية التي تعوض محصول الأرض الذي لا وجود له بموسم الحج السنوي، والمواسم المتكررة للعمرة على مدار العام.