لأنه مما لا تترتب عليه فائدة تذكر، فالقرآن الكريم ليس كتاب تاريخ أو قصص أو حكايات، وهو وإن تعرض لهذه الجوانب لكنه يأخذ منها عصارة التجربة الإنسانية التي تقدم الترياق لمصاعب الأجيال القادمة ويدبر عما سوى ذلك.
ومن الروايات التي يمكن أن نطلع عليها على سبيل الاستئناس أنه وقف على جبل الصفا، وأخرى تذكر أنه وقف على جبل أبي قُبَيْس (١)، وربما هذا وذاك أقرب للقبول؛ لأن العبرة لا تكمن في قيام إبراهيم على حجر يصعد به فوق جبال مكة يؤذن في الناس بالحج وليس ثمة سوى أفراد قليلين في مكة، وإن كنت لا أستبعد ذلك على قدرة الله تعالى ومكانة خليل الرحمن، إلّا أن العبرة في ذاك المشهد كامنة في نداء إبراهيم في البشرية حاضرها وامتداداتها إلى يوم الدين في لحظات لم يكن فيها سوى القلة القليلة من أبناء الإنسانية تلك، ولم يكن في مكة يومها ربما سوى أفراد معدودين منهم، ثم ما يلبث النداء أن يعمل عمله في الحاضرين والغائبين وتتحقق معجزة التبليغ الذي قارن النداء، وما يزال، وكأن الأذان الإبراهيمي يشير إلى مركزية الكعبة في الأرض في بثٍّ انطلق من هناك على شكل دوائر منتشرة امتدت حتى بلغت كل بقعة في الأرض، وما يزال البث مستمراً إلى اليوم دون توقف وكأن ذبذباته تدغدغ كلَّ عامٍ أفئدة المؤمنين فتأتي وفودهم فرادى وجماعات من كل فج عميق بعد أن تتحرك لواعج الحب والشوق في قلوبهم وقلوب آخرين من إخوانهم تقطعت بهم أسباب الوصول إلى مكة.
هذه هي المعجزة، وهذا هو الذي استغرقت به آية الكتاب العزيز وهو الذي ينبغي أن نقف عنده ملياً ونحن نتأمل المقام والأذان وذكرى خليل الرحمن وعبق الفريضة والمكان.
(١) اُنظر فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم - عليه السلام - (١١١).