للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجهادين لا يعود على المسلم نفع مادي مشاهد في الوقت الذي يبذل فيه مشقة النفس والمنافع المادية، بيد أنه في الأخرى منهما تزهق روحه دون الأولى فقدّمت عليها.

وهل المال إلّا شقيق الروح؟ فإذا استرخص الحاج كلفة الجسد (١) في سبيل يرضى بها عنه رب العزّة، وقرن ذلك ببذل الروح الذي يعادل النفس، وكان ذلك بحيث لا يكون إنفاقاً من حيث الشكل فقط، في أرض تجمع غبار الجهاد، إلى شظف العيش، إلى الظلّ بعيداً عن الدعاية والإعلام، فإنه بهذا يقدم البرهان الأكيد، والعلامة الفارقة على إخلاص قصده بين يدي مولاه الكريم العلي المتعال (٢).

نعم لقد قدّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بذله يوم النحر أروع صورة تحكي لنا كرم النبوة، وسخاء المسلم، واحتساب المؤمن في معاملته مع الله، وصدق الادّعاء بين يديه، إذ لكل ما يدعيه الإنسان شاهد ودليل، وهل مثل عطاءِ من لا يخشى الفقر ناطق بالشاهد والدليل؟ لاسيما وأنه - صلى الله عليه وسلم - مات لوقت قريب، وليس عنده مال يورثه، حتى إن درعه يوم التحاقه بالرفيق الأعلى كانت مرهونة عند رجل من اليهود.

إن طائفة من المسلمين اليوم تظل تحدثك عن ضخامة النفقات، وتتهمك بالإسراف في رصدك للّائق من الخدمات، في محاولة منها لسحب البساط عن عملية الإنفاق في هذه الرحلة المباركة، وكأن الحج صلاة والتكليف فيها بدني!


(١) هذا بشرط أن تكون المشقة ضمن حدود الاحتمال، بخلاف ما لو كانت لا تطيقها النفس البشرية، أو تؤدي إلى ذهاب منفعة عضو فحينئذٍ لا تجوز.
(٢) بدليل أن الحاج قد يدفع إلى فقراء لا يعرفهم، وهم يأخذون منه دون سؤاله عن اسمه وجنسيته وموقعه الاجتماعي؛ لأن مظاهر الرياسة تتراجع في تلك الأرض؛ فالجميع يعلم أنهم على مائدة الرحمن، وأن الحرم هو موطن العطاء، وأنَّ المعطي الحقيقي هو الله عزَّ وجلَّ.

<<  <   >  >>