قَالَ أَبُو عُمَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يروي حديث بن شِهَابٍ هَذَا وَأَنَا الدَّهْرُ بِالرَّفْعِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ بِنَصْبِ الدَّهْرِ عَلَى الصَّرْفِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا الدَّهْرَ كُلُّهُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَمَا فِيهِمَا
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا فِي التَّمْهِيدِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ الْمَعْنَى عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَرَدَ نَهْيًا عَنْ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَهُ مِنْ ذَمِّ الدَّهْرِ وَسَبِّهِ لِمَا ينزل من المصائب في الأموال وَالْأَنْفُسِ وَكَانُوا يُضِيفُونَ ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ وَيَسُبُّونَهُ وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ ذَلِكَ بِهِمْ وَإِذَا وَقَعَ سَبُّهُمْ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ وَقَعَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِجْلَالًا لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُضَارَعَةِ سَبِّ اللَّهِ وَذَمِّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ
(أَلَا إِنَّمَا ذَا الدَّهْرُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ قَوِيمٍ بِمُسْتَمِرِّ)
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي التَّمْهِيدِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِتَوْفِيقِهِ وَيُسْرِهِ لِلْعَمَلِ بِعِلْمِهِ بَلْ هُوَ كَثِيرٌ جَارٍ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُذَمُّ الدَّهْرُ مَرَّةً وَيُذَمُّ الزَّمَانُ تَارَةً وَتُذَمُّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ مَرَّةً وَتُذَمُّ الدُّنْيَا أَيْضًا
وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَعْنَى مَا وَصَفْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ إِذَا ذَمُّوا الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ إِلَّا الدَّهْرَ عَلَى قَبِيحِ مَا يُرَى مِنْهُمْ كَمَا قَالَ حَكِيمٌ مِنْ شُعَرَائِهِمْ
(يَذُمُّ النَّاسُ كُلُّهُمُ الْزَّمَانَا ... وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا)
(نَذُمُّ زَمَانَنَا وَالْعَيْبُ فِينَا ... ولو نطق الزمان بنا هجانا)
(وإن الذي لَحَمَ ذِئْبٍ ... وَيَأْكُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا عِيَانًا)
وَرُبَّمَا كَانَ ذَمُّهُمْ لِلدَّهْرِ عَلَى مَعْنَى الِاعْتِبَارِ بِمَا تَأْتِي بِهِ الْمَقَادِيرُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
(سَلِ الْقَصْرَ أَوْدَى أَهْلَهُ أَيْنَ أَهْلُهُ ... أَكُلُّهُمُ عَنْهُ تَبَدَّدَ شَمْلُهُ)
(أَكُلُّهُمُ قضت يد الدهر جمعه ... وأفتاه قص الدهر يوما وقتله)
(أخي أرى الدهر نَبْلًا مُصِيبَةً ... إِذَا مَا رَمَانَا الدَّهْرُ لَمْ تُخْطِ نَبْلُهُ)
(فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الدَّهْرِ فِي طُولِ عَدْوِهِ ... وَلَا مِثْلَ رَيْبِ الدَّهْرِ يُؤْمَنُ ختله